حكمت البخاتي …
أول أعياد الدنيا هي أعياد مردوخ أو أعياد دموزي في العراق القديم وكل العيد في العالم يعود الى تلك الجذور الرافدينية القديمة وبقت نسخة وحيدة ووريثة لها في العالم الحديث هي اعياد النوروز ، ويكون موسم تلك الأعياد العراقية القديمة هو الربيع وأيامه في شهر نيسان وهو أول شهور السنة الشمسية العراقية القديمة وفيه موسم الحصاد الذي تمنح فيه أرض الرافدين عطاءها للعراق وتمنحه نضارة الربيع ونضارة الزرع وفيه تعبير عن خصب الطبيعة وكان يرمز لهذا الخصب بممارسة طقسية في طقس الزواج المقدس أو كما يطلقون عليه البغاء المقدس وباحتفال طقسي يحضره كهنة المعبد ويتأول العراقيون القدامى هذا العيد بعودة تموز – دموزي من محبسه الغرامي وسجنه العاطفي بعد ان أذنت عشتار أن يطلق سراح دموزي من العالم السفلي بعد ان أغرت به وجذبته الى عالم فتنتها الأخاذ لتحبسه كل فصول السنة ثم تطلقه من إسارها في الربيع حيث تخضر الأرض وتجود بعطاء الزرع وفيه تزهر الطبيعة وتنمو،ويكون دموزي رمز جمال الشباب الذي يستحضر معنى جمال الطبيعة بحضوره في الربيع ، وقد استمرت الذاكرة العراقية باستحضار اخضرار الارض بمرور الخضر حي الدارين كما يسمى في الرواية أو الحكاية الشعبية العراقية ومنه اشتقت اسم الخضر بسبب اخضرار الارض بمروره وهي عملية إعادة رمزية لحكاية أو أسطورة تموز – دموزي القديمة .
فالربيع في الثقافة العراقية القديمة هو شباب الطبيعة حيث يكون موسم الربيع هو موسم الحب والجمال ، الجمال الذي يكون من نصيب الراعي المسكين دموزي والحب الذي يكون من حظ الآلهة العاثر عشتار الاكدية أو أنانا السومرية لكن دموزي الجميل يرفض ان يحتكره حب الآلهة المغرورة بالقوة والسلطة فلا يستجيب الى رغباتها فتعمد عشتار تلك الآلهة المغرورة بالقوة والسلطة وتحت سطوة الحب وسلطته على الثأر من دموزي وأسره لتحتكر الجمال جمال دموزي لها في عالمها السفلي ويتحمل دموزي عذابات احتكار الجمال واحتكار المتعة بهذا الجمال وهو ماتفعله دائما الدكتاتوريات السلطوية في عالمنا .
ثم تمضي الأسطورة العراقية القديمة في رسم خطوات عشتار في استرداد دموزي من مغالق عالم الآلهة لتعيده الى الحياة كي ينشر الجمال في الطبيعة بعد ان أحست عشتار بمأساة الطبيعة ووحشة العالم بغياب الجمال فيعود دموزي الى عالمه البشري الخاص به ويعلن البشر من عودة دموزي الى عالمهم عيدا تضع الطبيعة اكليل الربيع على رأسه في مواسم الحصاد وفي اللغة فان اشتقاق العيد من العود وفي الحدث الاسطوري من عودة دموزي بهبة الارض في الربيع وهو عيد الأرض .
و يأخذ العيد في الاسلام منحى مقاربا في العودة لكنها العودة الى الله تعالى وهو عود اوعيد روحاني خالص فالشهر الذي ينقضي بالكف والمنع عن الدنيا وهو معنى الصوم والعودة فيه من الدنيا الى الله تعالى وأكليل العيد فيه هو اللقاء بالله تعالى الذي هو ربيع حياة الايمان وقطاف العمل الصالح فالزرع هنا أخرويا بماهيته وتمامه وعطائه إلهي خالص فالله يقول ” الا الصوم فانه لي وبه اجزي ” وما ان ينتهي ذلك الشهر الصائم عما سوى الله تعالى حتى يمارس المؤمن شعائر العيد في تكريس ذاكرة الشهر المبارك في الفرحة سمة العيد وروحه في عيد الفطر فـ ” للصائم فرحتان فرحة عند افطاره وفرحة عند لقائه بربه ” كما ورد في الحديث الشريف ، وفي تكريس ذاكرة اللقاء بالله في ذاته وفي سفر ايمانه يستحضر المؤمن دائما تلك العودة الى الله تعالى ومنه اشتقاق العيد في عرف وتقاليد التقوى من العودة الى الله تعالى و” العيد هو كل يوم لم يعص الله فيه ” كما يقول سيد التقوى وامام الهدى علي بن ابي طالب عليه السلام فهو عود أبدي الى الله تعالى وهو عيد الإيمان.
Post Views: 3٬154