في تاريخ السعادة .. تحولات على مفهوم السعادة ..

0
1837

حكمت البخاتي …

يتحدث المؤرخ الأثري العراقي طه باقر عن الحنين الى الماضي في الكتابات السومرية ، فالسومريون الذين سكنوا جنوب العراق في منتصف الألف الثالث قبل الميلاد واختلف الباحثون في التاريخ القديم حول أصولهم كانوا يرون أنفسهم بأنهم وريثو ماض بعيد لم يحددوا تاريخه وأنه كان ماضيا مجيدا أسبغوا عليه المعنى السعيد وقد أسسوا بذلك فكرة ذهبية الزمن الماضي أو الماضي الذهبي الذي صار مشتركا ثقافيا بين كل الحضارات البشرية وكان هذا الزمن في نظر السومريين يسود فيه السلام والوئام وكان الخير يعم الكون وكانت اللغة المستخدمة في تمجيد الإله وفي التواصل الاجتماعي لغة واحدة – ملحمة كلكامش ، طه باقر ، ص 10 ، وزارة الإعلام العراقية ، الطبعة الثالثة ، السنة 1391 هـ – 1971 م – وهو أقدم نص في الاشارة الى أو في تاريخ السعادة في حياة البشرية ويبدو أن اللغة الواحدة التي أشار اليها السومريون في ذلك الزمن الماضي كانت ترمز الى ذلك السلام والوئام السائد في ذلك الزمن من التاريخ المجهول أو لعلها في ماتصنعه من تواصل وتفاهم مستمر بين البشر هي المسؤولة عن هذه السعادة في هذا الزمن المفترض في الحلقات الأُوَل من تاريخ البشر .

وتمضي الأساطير العراقية القديمة في وصف ذلك الزمن السعيد وأسباب السعادة فيه وبتفصيل واضح في أسطورة الأخوين الصيف والشتاء إنيتين وإيميش حيث تم خلق هذين الفصلين في مناخ وادي الرافدين من قبل الاله انليل وفق أسطورة الأخوين وتشير هذه الأسطورة الى تكاثر النعاج والبقرات وبهجة السهوب وامتلاء الأهوار ببيوض الأسماك وبناء العصافير لأعشاشها ونمت الأشجار والزر وع وشيدت البيوت في كل مكان في بلاد وادي الرافدين وأقيمت المعابد وكان الماء المنعش يسيل في المجرى المليء بنبت الحقول وتطفح الأثمار حلاوة في البساتين المروية – ديوان الأساطير سومر وأكاد وآشور ، الكتاب الأول ، ص 77 -78 ، نقله الى العربية قاسم الشواف ، اشراف أدونيس ، وكذلك ألواح سومر ، صموئيل كريمر ، ترجمة طه باقر ، ص 227 ، مكتبة المثنى / بغداد – كل ذلك في بدايات ذلك الزمان المجهول والسؤال هو هل كان السومريون ينقلون وقائع عن زمان هم أقرب اليه تاريخيا من أجيال البشر اللاحقة ؟ أم أنهم يتخيلون زمنا ماضيا ويسبغون عليه ذلك المعنى من السعادة وهو ما تحول الى نزوع انساني يكشف عنه هذا الحنين المستمر الى الماضي لدى كل الشعوب وفي كل الأجيال وفي كل الحضارات وما تسبغه ثقافات هذه الحضارات من المعنى السعيد على الزمن الماضي وتغرسه في الذاكرة الجمعية والفردية في أجيالها .

وعلى أي حال فأن هذا الزمن السعيد من التاريخ المجهول قد انتهى وتحول الى مجرد ذكرى حين وقعت الكارثة والتي أرخت لها الأسطورة العراقية القديمة فيما نتأوله منها قي قراءة تاريخ السعادة فقد جاء في أسطورة ( قصاص بستاني أنكي الذي اغتصب إنانا ) وصف شيق وبهيج للزراعة التي علمتها الآلهة للطائر / الغراب وإحالتها الى الغراب قد يكون للقدسية التي يحظى بها هذا الطائر أو أنها رمزت في استحضاره الى دور الطبيعة ومصدر النباتات البرية التي تنمو بشكل طبيعي ودون تدخل الانسان ولذلك أحالتها بعيدا عن الانسان الذي منحته هذه الأسطورة دور غرس الأشجار الظليلة وهي أشجار الصفصاف ذات الكثافة الظلية في الصباح وعند الظهيرة كما تقول الأسطورة وتستمر الأسطورة في سرد هوية هذا الفلاح – الانسان فهو ابن الاله أنكي واسمه شوكاليتودا وكان قد رأى الالهة إنانا في بستانه الذي صنعه هو وكانت إنانا نزلت الى الأرض : للتفريق بين الاشرار والاخيار والفصل بين الحق والباطل وقد وصفت الأسطورة إنانا بأنها ذات الصلاحيات العظيمة ورغم احتياطات الشرف التي اتخذتها هذه الالهة في الليلة التي نامت فيها في بستان هذا الفلاح شوكاليتودا الا ان هذا الفلاح المتهور أقدم على فعل مخل بالشرف واعتدى على عذرية هذه الالهة التي اكتشفت آثار الاغتصاب الجنسي عند طلوع الفجر واشراق الشمس وحينها قررت الثأر لشرفها كما تتضمنه الأسطورة التي تقول : إنانا تفحصت تفسها عن قرب وفهمت انها أغتصبت وعند ذلك أي كارثة لم تثرها بسبب فرجها المهان وأي شر لم ترتكبه إنانا بسبب فرجها المهان ملأت بالدم جميع آبار البلاد جرت الدم الى أحواض البساتين كلها ان ذهب خادم لجمع الحطب لم يكن يشرب سوى الدم واذا ذهبت خادمة لجلب الماء لم تكن تعود الا بالدم ثم تسرد الأسطورة تفاصيل ملاحقة إنانا للفلاح الغاصب شوكاليتودا ومحاصرته حتى استسلامه لكن هذه الأسطورة تشير الى كارثة اوقعتها هذه المرأة الالهة للمرة الثانية عندما حلت وثائق الرياح السيئة وأطلقت إلتفاف الزوابع ارتفعت وراءها العواصف الرملية ودوامات الغبار ثم تنتقل الأسطورة الى المصيبة أو الكارثة الثالثة التي حلت بالبلاد وفق تسمية الأسطورة وفيها هذا ما ارتكبته إنانا سدت طرق البلاد كلها مسيئة الى الرؤوس السود وكان وصف الرؤوس السود في الأساطير العراقية القديمة يطلق على سكان الجنوب في العراق من السومريين وأخيرا قبضت الالهة المعتدى عليها على الفلاح المتهور لتقصيه من الأرض السعيدة وتعلقه في السماء مجرد نجم في خاتمة الأسطورة – ديوان الأساطير ، مصدر سابق ، ص 85- 97 ، وكذلك ألواح سومر ، مصدر سابق ، 144- 150 – انها أسطورة أحداثها غير مؤرخة ولا تدخل في حوادث التاريخ البشري لكنها تحمل دلالات راسخة في ثقافة بلاد وادي الرافدين القديمة بل وفي كل ثقافات العالم القديم وفي مقدمة تلك الدلالات أن العدوان على المقدس سيورث الكارثة ويكون هذا العدوان البشري على القيم العليا وتدنيس المقدس هو مؤشر على خاتمة أو نهاية الزمن السعيد ، ويبدو في الأسطورة العراقية القديمة اهتمامها بالراعي ونبذها للفلاح مما يؤشر الرؤية العراقية القديمة المتعلقة بالزمن الماضي فالرعي مرحلة سبقت مرحلة الزراعة وكان الانسان يعيش فيها وسط الطبيعة وكانت الغابات والأحراش تقدم له وللنعاج وللابقار الداجنة كل الطعام ولعل مرحلة الرعي هي الحياة السعيدة التي أشارت اليها أسطورة الأخوين الصيف والشتاء إنيتين وإيميش في بهجة السهوب وامتلاء الأهوار ببيوض الأسماك وبناء العصافير لأعشاشها ونمو الأشجار والزر وع .

ولم تكن هناك مؤسسة تحكم الانسان الراعي أو تقيد من حريته فالمدينة أو القرية الزراعية الأولى لم تكن لتظهر بقوانينها ومؤسساتها في هذه المرحلة وبهذا تبدو مرحلة الرعي جميلة وسعيدة في الذهنية العراقية القديمة ولعلها توحي بالزمن السعيد في الذاكرة العراقية القديمة ونجد ذلك الحنين اليها والحب لها في تعاطف الثقافة العراقية القديمة مع الراعي دموزي في محنته مع الالهة المغامرة عشتار وتشي بذلك البكائيات التي كان يمارسها العراقيون القدامى حزنا وألما على الراعي دموزي الشاب الجميل الذي سجنته الالهة في العالم السفلي وهذه البكائيات السومرية القديمة هي في جملة أو سلوك التعاطف مع الانسان الراعي والرغبة والذكرى المتعلقة بمرحلة الرعي الذي يبدو أنه كان ماضيا سعيدا في الذاكرة العراقية القديمة لكن الفلاح شوكاليتودا هو الذي جلب الدمار والخراب والشر الى أرض البلاد وبذلك انتهى زمن السعادة وتوقف التاريخ فيها . واذا كانت الأسطورة العراقية القديمة لا تحدد زمنا واضحا في هذا التاريخ القديم أو المفترض فانها تؤشر جغرافيا السعادة في قبالة التاريخ المجهول فيها أو تعين المكان الخاص بهذه السعادة في قبالة الزمان غير المتعين لها . وهذا المكان أو جغرافيا السعادة هي منطقة دلون التي يذهب الباحثون في التاريخ القديم الى تحديدها في منطقة البحرين وفيها تتخيل الآداب السومرية ذلك الفردوس المفقود في تاريخ البشرية فقد جاء في قصيدة سومرية وصف أرض دلمون في تاريخ أقدم انها أرض الخلود التي لا يوجد فيها مرض أو موت وفي أهم مقطع من هذه القصيدة يتعلق بالزمن الماضي السعيد أو بتاريخ السعادة يقول الشاعر السومري : ( في دلمون لا ينعق الغراب الأسود ولا يصيح طير الـ ” إندّوا ” ولايصرخ ولا يفترس الأسد والذئب لا يفترس الحمل ولم يعرفوا الكلب المتوحش الذي يفترس الجدي ولم يعرفوا الذي يفترس الغلة ولم توجد الأرملة والطير في الأعالي والحمامة لا تحني رأسها وتمضي الأسطورة في وصف حالة الجماعة السعيدة والحياة المتدفقة فيها وتنفي الأسطورة أن يكون في هذا الفردوس كهنة نائحون أو منشدو الرثاء – ألواح سومر ، مصدر نفسه ، ص 244- 245 وفيه اشارة الى إيمان الأقدمين من الشعوب والأمم الغابرة بالجنة في أزمنة ماضية وسحيقة في تاريخ البشر وهي تقارب مواصفات جنة آدم التي ورد وصفها في القرآن الكريم ويتحدث المؤرخ الأثاري صموئيل كريمر عن تأثير هذه الأسطورة على الأدب العبري في الرواية التوراتية عن الفردوس المفقود – ألواح سومر ،م ن ، ص 243 – ويبدو أن الأمم القديمة قبل ميلاد السيد المسيح وهو عصر هذه الأساطير كان فيها التداول الثقافي الكثيف والمستمر لفكرة أو رواية الزمن السعيد وأخبار الفردوس المفقود العريق في القِدَم التاريخي وهو نقل متسلسل في أجيال هذه الأمم القديمة لواقعة الفردوس المفقود وهي واقعة لاتبدو في ثيمتها الرئيسية من صنع الخيال بل هي واقعة حقيقية أضفت عليها أساطير هذه الامم القديمة حللا من الزخارف الأدبية والكلامية فالأسطورة وفق ليفي شتراوس تتكون من ثيمة حقيقية يشارك الخيال الخصب في صناعتها وتكوينها من جديد وهو ما صنعته الأسطورة السومرية في صياغة هذا الفردوس السعيد وحكاية الوئام والسلام وحكاية اللاخوف واللاحزن واللابغضاء هي سمات ذلك الزمن السعيد والماضي الذي ظل السومريون ينتابهم اليه الحنين الذي تحدث عنه المؤرخ الأثري طه باقر ، لكن هذا الفدروس السعيد كان وقفا على الآلهة ولم يكن للانسان الفاني حظ فيه وبحسب مؤلفي الأساطير من السومريين فان انسانا واحدا استطاع الدخول الى هذا الفردوس الأسطوري – ألواح سومر ، مصدر نفسه ، ص 249 – مما يقوض فكرة السعادة في التاريخ البشري لا سيما أن الأسطورة العراقية تحيل ما هو متعلق بتاريخ الانسان في السعادة الى الزمان المجهول وتحيل ما هو متعلق بالسعادة في تاريخ الآلهة الى المكان المعلوم ” دلمون ” واحتكار المكان السعيد لها حصرا وهنا تبدو الأسطورة العراقية أكثر تشاؤما تجاه تاريخ السعادة في حياة الانسان فقد اختتمت تلك القصيدة السومرية مقاطعها بالحديث مجازا وباسم الالهة عن آلام الانسان : ( اجلست ننخرساج أخاها أنكي في حضنها ما يؤلمك يا أخي ؟ ان الـ …..هو الذي يؤلمني يا أخي ما علتك التي تؤلمك ؟ يا أخي ما يوجعك ؟ ان سني هو الذي يؤلمني يا أخي ما يؤلمك ؟ يا أخي ما يؤلمك ؟ ان ذراعي هو الذي يؤلمني يا أخي ما يؤلمك ؟ ان ضعلي هو الذي يؤلمني — ألواح سومر ، مصدر نفسه ، ص 247- 248 – واذا كان مفهوم السعادة السومري قد انتهى الى الحديث عن الآلام في حياة الانسان وإرساء الحزن في الحياة وقدم تجربته في الحزن مع أسطورة دموزي وعشتار والبكائيات التي أرساها على أثر ذلك في الوجدان العراقي فأن مفهوم السعادة في المجتمع العراقي القديم ظل متأثر بالتحولات التاريخية والثقافية التي تمر بها المجتمعات البشرية ونجد تحولا يكاد أن يكون جذريا على مفهوم السعادة لدى البابليين العراقيين القدامى وقد انحدرت الموجة الثالثة منهم الى العراق من أعلي نهر الخابور ومع نهر الفرات حتى استقرت في بابل واستطاعوا في عهد ملكهم حمورابي الذي تسلم الحكم سنة 1729 ق م أن يخضعوا دويلات جنوب العراق وبلاد عيلام واشنونا .

ونكتشف هذا التحول في مفهوم السعادة في بابل القديمة من خلال مسلة حمورابي التي دونت كأهم مسلة قانونية منظمة ومنسقة في العالم القديم ، وهي المحاولة البشرية الأولى في تقديم معنى السعادة بالتلازم بينها وبين العدالة والتلازم بين العدالة والقانون من جهة موازية وبذلك كان مفهوم الدولة الي تتأسس وتحكم وفق القانون يستبطن معنى السعادة ويعبر عنها في نظام الحكم العادل وهو تحول تاريخي مهم وأساسي في مفهوم السعادة وتبدأ قوانين حمورابي بتقنين فكرة التفويض الإلهي في الحكم وهي الصيغة المشروعة لأنظمة الحكم في الحضارات القديمة أو هي التي تؤسس لشرعيتها في نظر العرف السائد في المجتمعات القديمة ويقنن حمورابي اختياره للسعادة البشرية بواسطة الآلهة أو كما يقول ( آنذاك سمياني …لازدهار خير البشر لأوطد العدل حتى يسود الأرض لأقضي على الخبيث والشر …أنا حمورابي الملك البابلي كما دعاني أنليل الذي يجعل الخير فيضا وكثرة أنه الحكيم الأداري الذي يغوص في اعماق الحكمة المنقذ للشعب من الشقاء الذي يبني لهم مساكن كثيرة ثم يقول ( فلما أرسلني مردوك لقيادة الناس في الطريق السوي لإدارة البلاد وضعت القانون والعدالة في لغة البلاد لتحقيق الخير للناس ففي ذلك الوقت أصدرت ارادتي بـ – قوانين حمورابي ، م ن ، ص 14 – 20 – ثم يشرع الملك البابلي في سرد قوانين مسلته ومواد الاحكام فيها وفي خاتمة المسلة يتحدث حمورابي عن الغاية من وضع قوانين العدالة فهي في رأيه ووفق قوله تضمن القيادة الرشيدة والحكومة الحسنة وتجعل الناس ينعمون بالصفاء والهناء وليس هناك أحد يرهبهم وأنهم نعموا بالحماية وسياسة السلام التي وفرها لهم حمورابي الراعي المحسن حامل صولجان العدالة التي وطد بها النظام ومنحها للمظلوم – م ن ، ض 73 – 74 – وهي مبادئ السعادة التي تتكفل الدولة بالالتزام بها كواجبات تشرعها القوانين الحاكمة في دولة العدل التي تلتزم بالأوامر العليا والمسؤولة عنها في حالة الملك حمورابي أمام القوى العليا التي يؤمن بها وهكذا نجد ان السعادة تقترن في الفكر البابلي القانوني والسياسي بالدولة والقانون بعد ان نزع هذا الفكر العراقي القديم عن مفهوم السعادة بقايا الأفكار السومرية القديمة التي كانت تحتكر السعادة لصالح الآلهة وعلى حساب البشر الذي لم تسمح له بدخول عالم دلمون السعيد إلا مرة واحدة .

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here