شيخنا لا تتطرق

0
1661

د.حميد الطرفي …
في زمن النظام الديكتاتوري البوليسي البائد اعتاد أحد الخيرين على إقامة مجلس حسيني سنوياً لعشرة ايام وفي الاشهر الأولى من عام 1980م وقبل اندلاع الحرب العراقية الايرانية ، حيث كانت الاعتقالات في صفوف الاسلاميين في بداياتها ، اعتادت أجهزة الأمن البعثية على أن ترسل أحد أفراد الأمن او وكلائهم لحضور هذه المجالس ورفع تقارير عنها إلى الدوائر الأمنية ، وغالباً ما يتم التستر على ذلك ولا يعلم صاحب المجلس بالشخص المرسل ، لكنه في تلك الليلة رأى بأم عينه أحد أفراد الأمن قد جاء وقد وصل قبل وصول الخطيب ، فاضطربت أمعاءه وخشي عواقب الأمور خاصة وان الخطيب لديه قدر من الشجاعة وأحياناً يبعث برسائل ايحائية ( حسجة) ينتقد بها النظام ولو من بعيد .
وما إن وصل الخطيب حتى همس بإذنه صاحب المجلس ( اليوم شيخنا حاول أن لا تتطرق منا منا ترى أكو خطورة ) وفهم الشيخ التحذير وعندما بدأ الشيخ بالقراءة وهو لا زال يقرأ المقدمة ( لعن الله الظالمين لكم من الأولين والآخرين إلى قيام يوم الدين ) نظر شرطي الأمن الى صاحب المجلس فاضطرب وقام يهمس في اذن الخطيب ( شيخنا لا تتطرق ) فكتمها الخطيب في قلبه واستمر بالقراءة وعندما تحدث الشيخ عن معسكر يزيد وجنوده ومعسكر الحسين وجنوده وان يزيد طاغية زمانه شارب الخمور وراكب الفجور نظر الشرطي الى المسكين صاحب المجلس فراح يهمس في اذنه ( شيخنا لا تتطرق ) وهنا لم يتمالك الخطيب غضبه وصاح به ( إي أدري أنا وين تطرقت وشنهو كلت حتى تكلي لا تتطرق ، لا تتطرق خو گلي لا تقره والغي المجلس ) ونزل من على المنبر وأُلغي مجلس العزاء وتفرق الناس ، طبعاً الخطيب لم يسلم من استجواب افراد الامن له في اليوم الثاني لأنه أوصل رسالة المراقبة الأمنية لكل الحاضرين ، هذه الحكاية تذكرنا اليوم ببعض الإرهاصات على حرية التعبير .
لا يشك أحد أن ما تحقق من الحريات العامة بعد سقوط النظام الديكتاتوري 2003م شيءُ كثير وكبير ولا وجه للمقارنة فيما قبل وبعد هذا التاريخ ، ولا شك أيضاً أن بعض هذه الحريات قد وصل الى حد الفوضى فانتهك النظام العام والآداب العامة وفلسفة بناء الدولة والصالح العام للمجتمع فأجج بعضهم الطائفية والكراهية وأثار العنف تحت يافطة حرية التعبير والضمير والعقيدة وحرية تشكيل الأحزاب والتظاهر وغيرها من الحريات التي أوردها الدستور العراقي الدائم لعام 2005م .
بيد أن ذلك كله لا يمنع من القول بأن هناك كوابيس جاثمة على حرية التعبير لازالت موجودة سببها ضعف الدولة وانحسار سيادة القانون . فالكاتب أو المفكر وحتى السياسي يحسب ألف حساب لكلمة يتفوه بها خشية قوى معينة تمتلك السلاح غير المرخص ، وأخرى تمتلك المنبر ، وثالثة تمتلك القداسة عند تيار معين أو شريحة معينة .
بل أن بعض الباحثين بشؤون التاريخ مثلاً يخشون حتى في قول أن هذه القبيلة أصلها من الدولة الفلانية أو النسب الفلاني فتنهال عليه القبيلة لا يعلم من أين يأتي له الرصاص ويبعد عن مكان اقامته ( الجلوة ) . المزري بالأمر أن بعض الجهات تبيح لأفرادها أن يتحدثوا بما شاءوا عن الآخرين زعماء ، شخصيات وطنية ، قرارات اتخذوها ، أفعال قاموا بها ، أما إذا تحدث أخر عنهم فتقوم الدنيا ولا تقعد وعليه أن يقدم اعتذاره ، وأزرى من ذلك أن الدولة لا تحميه والقانون لا يحميه ولا يقف معه .
أقول أنا لست مع الإساءة للرموز الدينية والوطنية بقصد تسقيطها أو إهانتها ، ولكن مع تقويم قراراتها ونقدها بشكل علمي وعقلي ومنطقي ، ومادامت تلك الرموز ارتضت لنفسها أن تكون شخصيات عامة تتدخل في الشأن السياسي في بلد تعددي ديمقراطي ولديها كتل سياسية فعليها أن تقبل بشروط اللعبة الديمقراطية ( الرأي والرأي الآخر ) وعليها أن تضع قداسة العصمة جانباً فكل بني آدم خطاؤون وخير الخطائين التوابون – وما استثني من ذلك فهو معلوم – وإلا فعلى الشعب (أن لا يتطرق ) وتلك مصيبة أن ترى باءً تجر وأخرى لا تجر .

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here