ستار كاووش …
بعد ان أكملت صف اللوحات مع بعضها حسب الحجوم، ووضعت الألوان وأدوات الرسم في مجموعة من الحقائب، أكملت ساعات الظهيرة المتبقية بترتيب أمتعتي وكتبي وكل ما يتعلق بي من أشياء.
جلستُ علـى أحد الصناديق القديمة لأجول ببصري نحو الخارج حيث الهدوء الأخضر يعم المكان، مفكراً بكيفية إنتقالي الى مرسم مؤقت الى حين حصولي على البيت الذي أنتظره من البلدية، ووسط هذه الحيرة، باغتني صديقي أرنولد وهو يوقف سيارته قرب باب المرسم ويناديني بسرعة وبصوت عالٍ قائلاً (لقد عرفت الآن من صديقتي رينا أن الشقة التي حدثتك عنها أصبحت فارغة، نعم لقد إنتقلت المرأة التي تسكنها الى مدينة أخرى قرب إبنتها) ليكمل حديثه (تبدو غالية نوعاً ما، لكن لنراها أولاً، إركب معي بسرعة، رينا تنتظرنا هناك لنعرف التفاصيل).
حدث ذلك حين باعت العائلة الهولندية المزرعة التي تحتوي على المرسم الذي إستأجرته منها لأرسم وأسكن فيه، وسط مقاطعة درينته الريفية. هو لم يكن مرسماً في الأصل، بل كان في الأساس حضيرة خيول توقف العمل بها، لتبقى صالة فارغة تابعة للمزرعة، وتحولت قبل مجيئي بقليل الى مرسم إستأجرته للسكن والرسم حسب ما كانت توفره لي حالتي المادية.
إنطلقنا أنا وأرنولد بسيارته الزرقاء وسط حقول درينته ومزارعها المترامية على إمتداد البصر، وهو يسابق الأشجار والشوارع وحقول الذرة التي إستقرت على جانبي الطريق، وكأنه يستعيد مهنته السابقة كرجل شرطة ذاهباً في مهمة عاجلة. وفي منتصف الطريق إنتبهت الى شيء لم اتوقعه ولم انتظر وجوده ابداً، فطلبت من صديقي التوقف، ففعل ذلك بعد أكثر من عشرين متراً، ليقود السيارة الى الخلف من جديد، وهو ينظر الى الجهة التي مددتُ رأسي نحوها حيث عُلِّقَتْ يافطة كبيرة على بناية أنيقة، كتب عليها بخط عريض (فندق الكلاب) نظرت الى أرنولد وقلت له مازحاً: هل عرفت لماذا طلبت منك التوقف هنا؟ أدار رأسه نحوي ثم أغمض عينيه ضاحكاً وهو يحرك يده على لحيته الرمادية، لأكمل قائلاً: نعم ياصديقي أنا لا أملك سكناً، بينما الكلاب تعيش بطمأنينة وراحة بال في هذا الفندق الجميل وسط الريف! أعجبته إنتباهتي ليقول لي وهو ينطلق من جديد( نعم ياصديقي العزيز، فبعض العوائل حين تسافر خارج البلد تودع كلابها في هذا النوع من الفنادق لتنال الرعاية اللازمة). ياللكلاب المحظوظة وياللرسام التعيس، أية مفارقة هذه التي كانت تنتظرني علـى قارعة الطريق الزراعي؟، وهل يمكن ان يكون هذا حقيقة؟! وصلنا الى هناك وأكملت التفاصيل، حيث إستلمتُ شقتي الجديدة الصغيرة وحولتها كلها الى مرسم، بما في ذلك غرفة النوم.
تذكرت الآن تلك السنوات وأنا أقرأ في الصحف الهولندية عن الاسد العراقي الذي جاء الى هولندا معززاً مكرماً، نعم أسد عراقي بشحمه ولحمه، عمره سنة ونصف، عثر عليه إثنان من حراس السفارة الهولندية في العراق بالمصادفة في أحد الاسواق التي يباع فيها كل شيء وسط بغداد، ولأنه كان محجوراً في قفص صغير جداً وفي حالة مزرية وظروف قاسية، ويعاني من (الكآبة) وسوء التغذية والإجهاد! لذلك قررا شراءه، وقاما بحملة تبرعات لإرساله الى هولندا، وبالفعل قاما بالتواصل مع مؤسسة تعنى بالاسود، وجمعا تبرعات وصلت الى ثمانية آلاف يورو كي يُنقَل بعدها الأسد الذي أطلقا عليه اسم (سامبا) الى هولندا بسلامة وأمان، ليتمتع هذا الأسد الشاب بحياة تليق بهيبة الأسود العراقية! وهكذا تحقق حلم سامبا وتغيرت حياته من سوق الغزل الى محمية هولندية خضراء.
فكرتُ بنفسي وبالأسد وتأملتُ الظروف التي جاءت بنا الى هنا. أسد عراقي ورسام عراقي في المغترب، يبحث كل منهما عن موطيء قدم لمصير أيامه القادمة، الأول يبحث عن حديقة تسيجها السَكينة ليقضي فيها سنواته القادمة، والثاني يبحث عن مكان يعرض فيه لوحاته بعيداً عن هموم الحياة ومتاعبها التي لا تنتهي، لكن مهما حقق من نجاح، يبقى مع الأسف… بعيداً عن الوطن.
Post Views: 2٬163