عبد الزهرة محمد الهنداوي…
المدن، كائنات حية، حالها لايختلف كثيرا عن حال أي كائن حيٍّ اخر، تختنق، تتنفس، تحزن، تفرح، تمرض، تتعافى، تنمو، تتضاءل، وهكذا هي عاصمتنا بغداد، لطالما أحسسنا بها، وهي تسحب انفاسها بصعوبة وكأنها مصابة بنوبة من الربو، أو ضيق في التنفس، ونشعر بها، أيضا، إنْ استرخت، وتنفست الصعداء، في حالة ارتياح عميق، ونحن في كلي الحالين، نختنق لاختناقها، ونسترخي لاسترخائها، فهي رئتنا التي نستنشق الهواء النقي عبرها.
بغداد، ولطالما تعرضت للاختناق، لدرجة فقدان الوعي، أو الأعياء، فعلى مدى سنوات طوال امتدت لنحو خمسة عشر عاما، كانت الكتل الكونكريتية الضخمة، تجثم على صدر، بغداد، مانعة إياها من التنفس، وكم حاولنا ان نتجاهل تلك الكتل الخانقة، لنتنفس بهدوء، بعيدا عن الكونكريت الصارم الذي يخنق مدينتنا الجميلة، ولكن عبثا، كنا نحاول، فلا تنفس، ولا اوكسجين نقي، مادامت، تلك الصبات تلقي بحالها فوق صدر بغداد .
مضت السنون، وازدادت معها حالة ضيق التنفس، بسبب تزايد واتساع رقعة تلك الكتل المرعبة، وكلما حلّ عام، واستبشرنا خيرا، بانه سيضع حدا لاختناق العاصمة، مايلبث العام ان يلحق بسابقيه، من دون أي ضوء يلوح في الأفق، .. كانت ثمة محاولات في سنوات سابقة، ولكنها كانت خجولة، اذ سرعان ماتتراجع الحكومة عن قرار رفع صبة هنا أو جدار هناك، نتيجة التهديدات الأمنية، التي لم توقفها الكتل الكونكريتية، كما كنا نتصور، بقدر ما أسهمت تلك الكتل في تقطيع أوصال العاصمة، وإحالتها الى اشلاء مبعثرة، وكأن كل شِلو منها يعود لجسد ما.
ولكن ماكان لنا بد، الا ان نرضى بالواقع، في ظل وضع امني مجنون، اذ كان شبح الموت يخيم في الأجواء،مثل انتشار الكتل الكونكريتية في كل مكان ..ولأن دوام الحال من المحال، كما يقولون، ولأن بغداد مدينة حيّة، فقد نفضت الغبار عن وجهها، وأزالت عنه الكلح والسواد، وخلعت ثوب الحزن، وتسامت على جراحاتها، لتعود مثل طائر العنقاء .. فبعد صبر طويل، وإذ شهد المشهد الأمني استقراراً وهدوءً، جاء القرار الحكومي، برفع جميع الصبات الجاثمة على صدر بغداد، ففي بحر اشهر معدودات، تلاشت تلك الكتل الهائلة، وكأنها لم تكن موجودة، فظهرت بغداد على حقيقتها، التي نسينا بعضها نتيجة حجبها عنا، حتى اننا في الايام الاولى لزوال الصبات، كنا نضل طريقنا الى بعض الأماكن التي اعتدنا تمترسها خلف جُدر عالية،.