د.حميد الطرفي …
في البدء لا بد من الإشارة إلى أن وباء كورونا لم يكن الأول الذي يضرب هذه الأرض فقد انتشرت عبر التاريخ أوبئة عديدة كالطاعون والملاريا والكوليرا والسل الرئوي والايدز ، ولم يكن ايضاً الكارثة الأولى فكوكبنا شهد عشرات بل مئات الزلازل والفيضانات والبراكين والأعاصير ولا أظن أن كورونا نهاية الدنيا كما يروج البعض ، فليس هناك من علامة حتمية لنهاية العالم وقيام الساعة عملاً بقوله تعالى : ” يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ “( الأعراف ١٨٧ ).
لكن ما يُثار هذه الأيام من جدل بين من يرى أن هذا الوباء هو عقوبة لأهل الأرض على أعمالهم ولهوهم وعزوفهم عن ذكر الله وتسافل القيم وانحطاط الاخلاق ، والغرور الذي أصاب بني البشر لما حققوه من تقدم علمي هائل في مجال الاتصالات وبقية العلوم فباتوا يعرفون الذكر من الأنثى وهو في بطن امه ، ويسمع أحدهم الآخر صورةً وصوتاً وهم في أطراف الأرض ، ويستنسخون الحيوانات بعضها من بعض عبر الخلايا الجذعية ، ويتحسسون القمر بايديهم ويرصدون المجرات بتلسكوباتهم ، ويوجهون صواريخهم النووية باشعة الليزر وهي القادرة على تدمير الأرض خمس مرات .
بنو البشر هؤلاء باتوا يشرعون زواج المثليين في قوانينهم ويتفاخرون بذلك بين الأمم ، ويتعرون على الهواء ويعدون ذلك عملاً فنياً جريئاً ، يقول أصحاب هذا الرأي أن كل هذا يستحق عقوبة سماوية الهية لا تفرق بين شيخٍ وشاب ، ولا بين رجل وامرأة ، بل ولا بين مطيعٍ لربه وحافظْ لدينه وصائنٍ لهواه وآخر عكس ذلك . فعقوبة الله تعم وخيره يخص مستندين بذلك على ما ورد في آيات كثيرة كقوله تعالى : ” وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ . سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ . فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ ” ( الحاقة ٦-٨) .
فاولئك القوم بينهم الصغير والكبير واذا كان ذنب الكبير التكذيب بالآخرة ومحاربة الانبياء ورسالاتهم فما ذنب من لم يبلغ التكليف ؟ يجيب أصحاب هذا الرأي إلى أن ذلك يحتم علينا وجود اليوم الآخر ، دار المعاد ، يوم القيامة ، التي يعوض فيها الابرياء ، عما لاقوه في دار الدنيا ، وبدون هذا اليوم فالأمر لا يخلو من ظلم وجور .
ويرى آخرون أن الله -جل وعلا – أحنّ وأرحم من أن يعذب مخلوقاته بهذه الأوبئة والأمراض والزلازل والفياضانات ، وهو أحن علينا من الأم الرؤوف على ولدها ، ولكنه سبحانه وتعالى حين خلق هذا الكون خلقه بقوانين تسيره ، وسنن تحدد مجراه ونواميس متقنة تؤدي بمجموعها إلى جمال هذا الكون وروعته ، ورفاهه وسعادته ، فكرة القدم جميلة بالمنافسة والاحتكاك والمراوغة والمجازفة ، وسقوط هنا وتعثر هناك كل ذلك يشدنا ويمتعنا باللعبة ، لكن حينما يصبح الاحتكاك خشناً يصفر الحكم ، فهذه الأوبئة والكوارث هي من تكمل زينة الكون ، وتقضي على رتابته ، وتشعرك بوجود المدبر الحكيم ، وتذكرك بالقاهر الجبار ، والملك الرحمن ، والسلام المهيمن ، وتحث البشر على التفكير ، وتشحذ هممهم للإبداع وفي ذات الوقت تُشعرهم بصغر قدرهم وحاجتهم لمن أوجدهم ، وتذكرهم أن الخروج من المنزل متى تشاء نعمة ، ولقاء الأحبة نعمة ، والجلوس في دار للعبادة نعمة ، وحضور الاحتفالات نعمة ، كل ذلك ضمن قوانين تم وضعها مسبقاً محسوبة بعناية : ” لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ”( يس ٤٠ ) .
وعليه فمامن وباء ولا كارثة إلا وهي رحمة للعالمين تزين هذا الكون الجميل ، وتضيف عليه لمسة من لمسات حب الله للبشر ، تماماً كجرح الطبيب الحاذق وهو يبضع بمشرطه بطن مريض ليستخرج منها حصى المرارة أو زائدة دودية ملتهبة ، فظاهر مبضع الجراح العذاب وباطنه الرحمة .
Post Views: 1٬744