
حكمت البخاتي …
تبدا إشكالية النهضة لدى فاطمة المحسن على مستوى تحديد المعنى الدقيق لها في اللغة المعرفية المتداولة لدى الكتاب العرب والعراقيين على وجه الخصوص وفق قولها لكن هذه الكلمة (النهضة) تشهد توضيحا لها على مستوى مقاربتها من كلمة (الثقافة) وهو المنهج السائد في تصنيف النهضة كثقافة حديثة تبدأ نظريا وتستمر عمليا أو تبدأ بالمثل والقيم الحديثة ذات الأصول والمبادئ الغربية وتنتهي بإصلاحات الواقع الاجتماعي والسياسي أو تطبيقات مبادئ التنوير، وهذا المعنى في النهضة ينأى عن المعتاد في تعريفها كحقبة زمنية – تاريخية أعقبت العصور الوسطى في أوروبا وأسهمت في التحول الكلي لديها، وهو ما حدا بالمحسن الى استعادتها في وصف زمن التحول الذي شهده العراق في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين استنادا الى المعنى الزمني فيها وهو التحول أو التحقيب التاريخي لها وهو عصر النهضة.
الحلم النهضوي
لكن اقتصار النهضة على المعنى أو الفكرة وعدم امتثالها تاريخيا في واقعنا أخرجها عن التحقيب التاريخي بالنسبة لنا وحصر تداولها اللفظي والفكري على مستوى الكتابات والأدبيات العربية، ما جعلها تنحو منحى الثقافة في التعريف والمعنى، وهنا تشهد النهضة مقاربة واضحة وضرورية للثقافة، وهو ما دعا المحسن الى حصر النهضة في مجالها العربي بالحقل (الأدبي والفكري المحصور بين نصوص الكتاب وجدالهم واجتهاداتهم)، بينما تلجأ الى وصف التحول الذي شهده الأدب والفكر العربيين بالتحديث للتخلص من إشكالية الاسم وانطباقه على المسمى، ويبدو ذلك واضحا من خلال عنوان كتابها ذاته (تمثلات النهضة)، فالتمثل لا يشكل تحولا كاملا في الزمن وانما يظل محاولة في ذلك التحول وهي محقة تماما في ذلك التمييز المضمر في عنوان الكتاب.
وبين الزمن والأداة في التحول يكمن التمييز بين النهضة والثقافة فالنهضة زمن والثقافة أداة وفق المحسن، ومن أجل ان يتحقق شرط النهضة يجب التوافق والانسجام بين زمن التحول وأداة التحول، لكن هذا التحول لدينا لا يتم بالأدوات التي تناسبه أو تنسجم مع ضروراته النظرية والفكرية، فالزمن في التحول الموصوف بالنهضة يتم ارتياده بواسطة رجال دين أو رجال لم تكتمل لديهم تجربة التحصيل الديني وفق المحسن، وهو ما ينتج عنه تداخل أزمنة القراءة فالأطر القديمة في المعرفة تظل حاضرة في قراءة النهضة كمعنى في التحول وليس مجرد زمن في التحول، وهو ما أشغل تلك النخب بالمطابقة بين المعاني الدينية وأفكار النهضة، وامتدت تلك الأطر القديمة الى قراءة الثقافة كأداة في التحول، وهنا تتشابك النهضة الوافدة علينا مع الثقافة المحلية لدينا، فأنتجنا في هذا المعترك اشكالية الاصالة والمعاصرة ثم تطورت على المستوى المفهومي الى اشكالية التراث والحداثة، وقد شغلنا الجدل في تلك الاشكالية عن ارساء قواعد وخطوات النهضة الضرورية في التحول، مما أفقدنا تأسيس مصادر أو مؤسسات النهضة في حياتنا الثقافية والاجتماعية والدينية.
لكن الدولة العربية الحديثة التي نشأت في أعقاب الحرب العالمية الأولى هي من تكفلت بهذا التأسيس استنادا الى التشابك بين النهضة والثقافة في مفهوم التحول من خلال مؤسساتها العلمية والتربوية والقانونية وانتهجت مبدأ التثقيف الحديث في ادارة العلاقة مع مجتمعاتها والذي جيرته هذه الدولة لصالحها باتجاه التحول نحو الدولة الحديثة، وهو المشروع الذي وجدت الدولة فيه قدرتها الدفاعية عن ذاتها في بقائها التاريخي، وقد امتثلت تلك الدولة العربية الأولى ذات النظم الملكية الحالة الليبرالية في تاريخ العرب الحديث وهو يؤشر إمكانية النهضة لديها.
التأسيس
وتتجه المحسن الى إرساء مصادر النهضة في تأسيسات الدولة العراقية الأولى، وتصرح في ملاحظة مهمة لها عن أول احتفال بعد تأسيس الدولة العراقية في 8/ نيسان / 1922م بأن (هذا الاحتفال ينقل المعنى الرمزي لـ “النهضة” من حقله الأدبي والفكري… الى الحقل السياسي وخطابه الذي يربطه بالثورة) وكان هذا الاحتفال بمناسبة اليوم الذي أطلق عليه “عيد النهضة” وإعلانه عطلة رسمية وتحمل دلالة اتخاذه يوما رسميا، هذا السعي الحثيث للدولة العراقية في تبني مبدأ وفعل النهضة، وأما الحقل الثقافي الذي يفترض فيه النمو الأداتي والتاريخي للنهضة فإنه بات مضمرا في الفعل الذي تمارسه الدولة بصيغتها السياسية والادارية، وهنا تأخذ النهضة بعدا سياسيا وإداريا يتضمنه مفهوم الدولة ويشكل ضمانات تحولات النهضة في واقعنا، وهو ما يدع النهضة في واقعنا متأثرة الى أقصى حد بأوضاع الدولة السياسية غير القارة والمتحولة باستمرار في تاريخنا باتجاه مآزق الفعل السياسي الذي تمارسه دائما وهو ما يفسر مآزق وارتباكات النهضة لدينا في مساراتها الخاصة والعامة.
وقد نتج عن إحالة مسؤولية النهضة الى الحقل السياسي ذلك التواصل المستمر لدينا بين الثقافة كأداة في التحول وبين السياسة في العراق التي شكلت أخطر عائق أمام تنوعات وسيرورات النهضة الفكرية والمعرفية والعلمية، فيما تشكله السياسة في واقعنا من حجر وقمع للثقافة والابداع الذي يشكل سر كينونة النهضة وأداتها في الانجاز.
وتبرر المحسن ذلك التشابك بين الثقافة والسياسة باعتبار أن الثقافة لا تشكل حصرا الأدبيات التي تنتج الأفكار، وانما هي في واحدة من تعريفاتها (الخطابات الضامنة لهوية الجماعة والقيم المركزية السائدة فيها)، وهو ما يدعو الى تسييسها وهو ما تحول لدينا أخيرا الى آيدولوجيات قاهرة للدولة والمجتمع ومسارات النهضة الممكنة تحت مسميات الأصالة والتراث الضامنة للهوية الجماعية ومصدر القيم المركزية فيها. وارتهان الثقافة بهذا النوع من الخطابات قسرا للفكر وردعا للرغبة في التحولات كلما تمركزت قيم الأصالة والتراث بالطريقة الأصولية والسلفية وتبعتها على ذلك المنهاج بعض الايديولوجيات الحداثية.
لكن المحسن تذهب الى توصيف ذلك التواصل بين الثقافة والسياسة بالشراكة التاريخية بين المثقف والسياسي في منجز التحضر الذي تسبب عن منجز الدولة، وفي تجسير العلاقة بين الثقافة أداة التحول في النهضة والسياسة تلجأ المحسن الى توثيقها من خلال الصلة بين انبعاث المفاهيم الجديدة التي تشكل أدوات النهضة الفاعلة وأسباب السياسة كما يقول غرامشي ويشترط توافر البيئة المناسبة التي يقصرها على الأفراد والمجموعات التي تتبنى تلك المفاهيم الجديدة بينما لا تفقه الجماهير تلك المفاهيم إلا كإيمان وعقيدة وفق ما تنقله المحسن وتبدو متأثرة جدا به في تحليل دور الدولة العراقية في انجاز النهضة في العراق التي أخذت منحى سياسيا وفق استنتاجها واستشهادها بكلام رفائيل بطي وباحثين عراقيين بأن النهضة في العراق هي نهضة سياسية، وهو ما يميزها عن نهضة مصر وسوريا والكلام لهم، لا سيما النهضة الأدبية التي هي موضع اهتمام خاص وحصري في مبحث النهضة لدى المحسن.
ارتهان الثقافي بالسياسي