نعيم ياسين …
كثيرون اولئك الذين يدخلون السجون لكن اقلية منهم الذين يجدون في السجن فرصة للتامل والتفكير والانتاج وهم في سجنهم, فتراهم يضيق بهم الوقت. السجين السياسي الامام موسى بن جعفر الكاظم (ع) كان يشكر الله تعالى في زنزانته: ” الهي كثيرا ما سالتك ان تفرغ لي موضعا لعبادتك ففعلت”. ومن قبله كان نبي الله يوسف (ع), اذ كان السجن مكانا اخر لاداء رسالته بالدعوة للتوحيد في سجنه ” يا صاحبي السجن اارباب متفرقون خير ام الله الواحد القهار” وكان باخلاقه مع المسجونين وهم من الكافرين استطاع فرض احترامه عليهم حتى قالوا فيه ” انا لنراك من المحسنين” فوثقوا به حتى قص عليه سجينان رؤيتيهما لكل واحد منهما رؤية وكان ما كان من امرهما طبقا لتاويل يوسف (ع), وهو تاويل على علم من اللطيف الخبير.
واذا كان يوسف والكاظم (ع) من رموز السجناء المرتبطين بالسماء ينظران بنور الله تعالى, فان العالم في القرن العشرين شهد سجناء سياسيين لم يثنهم السجن, ولا الجلاد عن مواصلة التفكير في قضيتهم التي من اجلها سجنوا, ومن بين هؤلاء سجين سياسي اخذ اسمه مساحة كبيرة في تاريخ بلاده والعالم وهو السجين الزعيم الهندي جواهر لال نهرو.
ولد نهرو عام (1889) والتقى الزعيم غاندي في (1919) فتعلم الكثير من حكمته وتصوفه, اعتقل نهرو وزوجته اكثر من مرة لنشاطهما السياسي من اجل استقلال الهند وتحررها , ثم تولى رئاسة الوزراء وزعامة حزب المؤتمر الهندي واصبح احد كبار قادة العالم في وقته. من سجنه كتب نهرو ” لمحات من تاريخ العالم ” وهو ليس كتابا يفصل فيه تاريخ العالم, وانما هو مجموع الرسائل التي كان يبعثها من السجن بين (1930-1933) الى ابنته (انديرا غاندي) ذات العشر سنوات انذاك والتي اصبحت فيما بعد زعيمة حزب المؤتمر الهندي ورئيسة وزراء الهند. كتب نهرو رسائله حرصا منه على تثقيف ابنته انديرا بما حولها من وقائع السياسة والاستعمار وتجارب البلدان وما تشهده من احداث والاسباب التي تقف وراء تلك الاحداث.
يقول نهرو واصفا السجن والحياة فيه : ” ان لحياة السجن فوائدها لانها تهيء جوا من الراحة والعزلة, اما مساوؤها فبينة واضحة, ان السجن يخلو من المكتبات او المراجع التي يستعين بها السجين, وهذا يجعل الكتابة في اي موضوع عملا شاقا اقرب الى الجنون”.
من بين البلدان التي تحدث عنها نهرو في رسائله العراق فوصف في رسالته المؤرخة في (7 / يونيو / 1933) طبيعة مناخه وموقعه الجغرافي ” العراق البلد الخصيبة الواقعة بين نهري دجلة والفرات والتي عاصمتها بغداد, بلد هارون الرشيد وقصص الف ليلة وليلة والتي تقع بين ايران والصحراء العربية … وفي الشمال تلاصق تركيا”, وتحدث عن ثورة العشرين واصفا اياها بانها ثورة سرعان ما انتشر لهيبها حتى عم البلاد باسرها… واخيرا استطاع الاستعمار الانجليزي بمعونة الجنود الهنود القضاء على ثورة العراق وسحقها لكن من نتائج الثورة ان البريطانيين اسسوا حكما ملكيا في العراق بعد نفي” الزعيم العراقي طالب النقيب اقدر الوزراء اطلاقا “, ومضى نهرو يصف ظروف الثورة وما بعدها: ” ثم احضروا فيصلا في صيف (1921) ونصبوه ملكا على العراق … وكان في ذلك الوقت عاطلا عن العمل لكونه لم يستطع الاحتفاظ بعرشه في سوريا بسبب عدوان الفرنسيين “.
في الرسائل وصف نهرو احداثا وقعت منذ قرون فتحدث عن مجيء الاسلام والفتوحات وقرطبة والحروب الصليبية معرجا على الثورة الفرنسية وثورة الصين وموسوليني وفاشيته في ايطاليا. كتب نهرو رسالته الاخيرة في (9 اغسطس 1933) بسبب قرب انتهاء محكوميته كسجين واصفا طبيعة العالم الذي سيخرج اليه قائلا : “هكذا ينتهي السجن السادس لي, وبعده اخرج الى العالم الفسيح ولكن لأية غاية ؟ ان معظم اصدقائي ورفاقي موزعون بين السجون , وبلادي كلها تبدو كانها سجن كبير”.
هكذا السجين السياسي في افراد مميزين لم يثنهم السجن عن الهدف ولم يبرد لديهم مرجل التفكير. كم منا كتب في السجن؟ وماذا كتب مع الفارق بين سجن نهرو وحريته في القراءة والكتابة وبين سجن الطاغية صدام حيث كانت الشمس والهواء الصحي امنية كل السجين.
Post Views: 1٬201