محمد صادق الهاشمي
رسالتي إلى كلّ الذين يتباكون على حقبة صدام حسين ، أكتبها على عجالة واختصارٍ؛ لأنّ حقبته تحتاج إلى مصنّفاتٍ بعمر كلّ لحظة حكم بها العراق.
كنّا في السجون في أيّام حكم الطّاغية الذي كان مصداقا لقوله تعالى : {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [القلم: 13] .
كانت الدنيا كلّها توحي بالخوف والهلع والقتل ، فالناس تموتُ في جبهات الحرب الخاسرة ، يساقون إليها سوقاً ، وجنائزُ وافدةٌ من الحدود ، وجنائزُ أخرى آتية من خلف القضبان والمعتقلات الكئيبة التي تفوح منها رائحة الدم والجريمة .
نحن جيل منّا مَن استُشهد رمياً بالرصاص – وكان على أهلينا أنْ يدفعوا ثمن الرصاصة التي اخترقت قلوب أبنائهم ، وزهقت لها روحه ؛ إمعاناً بالإذلال – ، ومِنّا مَنْ شُنق بالحبال ليبقى لساعات يتأرجح على المشانق ، ومِنّا من دُفن حيّا ، ومِنّا من ذوُب في التيزاب، ومنّا من أُطعم للسباع وهو حيّ ، ومنّا ، ومنّا ، هذا هو زمن العزّ والكرامة الذي كان يتبجح به صدام وزمرته .
لقد كانت أيّام ( قائد الضرورة وحزبه ) عبارةً عن صفحاتٍ من الجرائم المتنوّعة بما تشهد عليه مقابرنُا الجماعية ، وسوقاً وزجّاً للشّباب في حروبٍ خاسرةٍ واعتقالات واسعة، و تهجير الآلاف من شرفاء المجتمع العراقيّ من شيعة آل محمّد (صَ) أرضهم وديارهم ، في العراء باتجاه إيران ، وتجفيف الأهوار ، وحرق مدن بكاملها ، وتجريف البساتين على شيعة (أهالي بلد)، وسوقهم إلى سجون «نگرة السلمان»، وإبادة مدن من إخوتنا الكرد بالكيمياوي فتلك مدينة حلبجة شاهدة على واحدة من جرائم علي حسن المجيد الكيمياويّ، والاعتداء عليهم بما يمثّل أكبر الجرائم في تاريخ الانسانية ، أعني ( الأنفال) ,اعتقد أنّ اللسانَ ليعجزُ أنْ يعدد جرائمهم؛ فإنّها فاقت عن التعداد ، وما يكون لبشر لم يكن قد عاصر تلك الحقبة أن يصدّقها ، أو يصدقها ولكن لا يعيش آلامها، فما راءٍ كمن قد سمعها .
ولكنّ كلّ هذه الجرائم التي لم يسلم منها البشر ولا الحجر ولا حتّى الشجر نجد هناك من يمجّد بحكم حزب البعث الشوفيني وبقائد الضرورة في وسائل الإعلام وبعض الأقلام وبعض الشّعراء المأجورين ، فلا زلنا نسمع :(أنّه بطل العروبة) و ( بطل القادسية ).
وكانت الخشية والخوف تدفع بالآلاف من الشعب لتقف مرغمةً مرحّبةً به وهاتفة ( خشية من الموت الأحمر الزؤام خصوصاً لمن تصطاده عيون كلابه المسعورة ):
يبو رِجل الذهب … محبوب الشّعب
يفنان العرب… مية هله بيك
هلا بيك هلا …..وبجيتك هلا
وكانت أجهزة القمع والموت تقف بالمرصاد لمن لم يخرجْ هاتفاً بذلك ، فيكون الحكم عليه أنّه خائنٌ للوطن خيانةً كبرى ، ومطلوبٌ للعدالة ، فكان يراد من هذا الشّعب المغلوب على أمره أن يعلن الولاء ويقول له المصفّقون :
العزيز أنت يا شمعتنا واهلنا …يا هيبة بيتنا وقائد وطننا.
وكان الطّاغية يريد أنْ يسمع مدحاً ؛ لأنّه يعيش عقدة تاريخه الواهن وانحطاط أسرته وشرف أمّه ، ليصدق ما يقوله له المادحون .
كان صدام وحزبه يمارسون الجريمة بكلّ أعصابٍ باردةٍ ، ففي الوقت الذي يساق الشّعب إلى الجبهات والسّجون وغيرهما تجد وسائل إعلامه تغطّي الحفلات الرّاقصة الصّاخبة في «قناة بابل» ، ويتعالى مدح الشّعراء له حينما يقوم بزياراته الاستهتارية للمدن أو يطلّ بوجهه القبيح عبر شاشات التلفاز، ففي اليوم الذي أعدم فيه المفكّر الاسلامي الكبير النابغة « السيد الشّهيد محمّد باقر الصدر » كان صدام يحضر مهرجان الرّبيع في الموصل ، وتغنّي له المومسات وترقص الرّاقصات (حياك يابو حلا) وهو يكشّر عن أنيابه ضاحكا بكلّ برود ساخراً من أمّةٍ بكاملها .
وفي اليوم الذي قتل فيه خمسة آلاف بريئاً في الأنفال كان الشّعراء يغنّون ويتغنّون بلا شرف بأمجاده وإنجازاته وبطولاته (… صدام يا عزّ العرب…).
وفي اليوم الذي أعدم فيه أسرة آل الحكيم كان الشّاعر يخاطبه :
سيّدي للكوت ما مرّيت وأهل الكوت بجيتك تحلم.
نعم كانت تلك الأيام أيّاماً سوداء علينا ،انعدم فيها الأمن ، والأمان، على كلّ شريف ، فلا قيمة للحياة ، ولا خيار للشرفاء سوى الموت أو الذّل والتصفيق، كان الشّرفاء والعلماء والمؤمنون والذين يرفضون هذا العتلّ الزنيم هم المخرّبون ، والعملاء ، والخونة والغوغائيون ، بحسب نظر ومفهوم هذا المجرم الذي لو أُريد للجريمة والانحطاط أن يتجسّد لكان صدام حسين وحزبه، وكان فينا كما كان فرعون في بني اسرائيل : {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص : 4]
Post Views: 815