شهود الصمت … صرخة من أعماق مقابر السماوة الجماعية

0
2303

باسمة السعدي

 

من صحراء السماوة، حيث يمتد السكون ككفنٍ يغطي جراح العراق العميقة ولياليه الدامية، تختبئ عشرات المقابر الجماعية من ذلك الزمن القبيح الذي عاشه العراقيون بين الحديد والنار، وفي قبضة النظام التي لا ترحم حتى الأطفال.

تروي السجينة السياسية انتظار أحمد الخزرجي، من أهالي قضاء الدجيل، مشاهداتها لدفن عشرات النساء والأطفال في المقبرة الأخيرة التي اكتُشفت في منتصف ديسمبر عام 2024، بعد أن سبقتها اثنتان وعشرون مقبرة في نفس الصحراء.

الشاهدة انتظار، التي اعتُقلت مع عائلتها إثر محاولة اغتيال صدام حسين عام 1982 خلال زيارته لقضاء الدجيل، تحكي قصتها: بعد فشل محاولة الاغتيال، اعتُقلت نحو أربعمائة عائلة من سكان القضاء، وأودعوا في سجن أبي غريب، حيث أُعدم الشباب والرجال. وبعد سنة تقريبًا، نُقل من تبقى منهم إلى المنفى الثاني في صحراء “ليا” ومنطقة “الشيحيات” في صحراء السماوة جنوب العراق، حيث احتُجزوا في بيوتٍ مهجورة لا تصلح للسكن، مُنحت كل عائلةٍ منها غرفةً واحدة. عاشوا ظروفًا قاسيةً جدًا في الصحراء القاحلة، التي يغطيها صمتٌ قاتل ووحشةٌ مرعبة، لا يقطعها سوى زمجرة الرياح العاتية التي تهبُّ فجأة في عواصف رملية تمتد لساعاتٍ طويلة.

تقول انتظار: “كنا نُدفن يوميًا في الرمال ونقاوم قوة الرياح إلى أن تهدأ أو تستقر الرمال في الأرض.”

وفي عصر أحد أيام عام 1983، تلقينا أوامر من الحراس: “ادخلوا بيوتكم ولا تخرجوا منها.” أثار هذا الإجراء فضولي لمعرفة السبب، فكنتُ أنظر من نافذة الغرفة المطلة على الصحراء الممتدة بلا نهاية. وبينما كنا نعيش بين جدران الخوف والعجز، رأيتُ رتلًا من السيارات الخشبية التي تُستخدم لنقل الركاب بين المحافظات، والتي كانت تُعرف آنذاك باسم “دك النجف”. كانت هناك سبع عشرة سيارة منها، وعشرون سيارة لاندكروزر مليئة بالحراس المسلحين.

توقفت السيارات، وأنا أراقب المشهد بينما كان والدي يسحبني بقوة من النافذة خوفًا من العقوبة، لكنني لم أُبالِ، بل تسمرتُ هناك أراقب ما يجري.

لفَّ الظلام تلك السيارات، ولم أعد أرى شيئًا، وانتهى المشهد… لكننا استيقظنا مرعوبين قبل الفجر بقليل على صوت إطلاق نارٍ كثيف. قفزتُ إلى النافذة نفسها لأرى ذلك المنظر المرعب الذي لا يزال يرافقني كل لحظةٍ أعيشها، ويسرق مني لذة النوم. ما زلتُ أسمع صدى الرصاص في أذني.

رأيتُ صفًا من النساء والأطفال يقفون ثم يسقطون بعد إطلاق النار عليهم، وجميع النساء يرتدين الزي الكردي العراقي. واليوم، اكتمل المشهد لدي؛ فقد كانوا من العوائل التي جُلبت من شمال العراق بعد مجزرة الأنفال لدفنهم في صحراء السماوة بعد قتل رجالهم.

قضى هؤلاء الأبرياء ليلتهم هناك بين الرمال وفي ضيق المكان، محجوزين في السيارات إلى حين اكتمال حفر القبور، دون طعامٍ أو ماء. ولك أن تتخيل صراخ الأطفال الجائعين، ورعب الأمهات اللاتي لم يستطعن فعل شيء. والأدهى من ذلك، تم حفر القبور أمامهم. كانت الأمهات يحتضنّ أطفالهنَّ، ويحتضنّ بعضهنَّ بعضًا بدفءٍ كبير، وكأنهنَّ يحاولن حمايتهم من النهاية القاسية التي تنتظرهم.

أُنزلوا من السيارات وسط نظراتٍ متجمدة من الحراس الذين لا يعرفون الرحمة. سمعتُ صرخاتٍ نارية تدوي في المكان، تخرق الصمت، وتعلن نهاية تلك الأرواح البريئة واحدةً تلو الأخرى. لم تكن هناك دموع فقط، بل كان الألم يملأ الهواء والأرض، التي كانت شاهدةً على تلك الجريمة البشعة.

امتزجت رائحة الموت برائحة الصحراء، وبدا صوت الرياح وكأنه يبكي معهم. في تلك اللحظات، شعرتُ بقلبي يتمزق وأنا أرى سقوط الواحد تلو الآخر في تلك الحفرة، لينهال عليهم التراب جميعًا.

كل رصاصةٍ أُطلقت كانت تخترقني أنا.

كان المشهد كابوسيًا، لكنني كنتُ عاجزةً تمامًا، وكأن الخوف قيدني بجذورٍ لا أستطيع اقتلاعها. حتى هذه اللحظة، لا يزال صدى الصرخات يتردد في أذني، وصورهم وهم يتساقطون، أجسادٌ صغيرةٌ وكبيرة تبتلعها الرمال بلا رحمة.

شعرتُ بغضبٍ عارمٍ وحزنٍ ثقيلٍ يضغط على روحي، وكأن الصحراء نفسها قد ابتلعت صراخهم وجوعهم وعطشهم، ودفنت معها شهادةً على واحدةٍ من جرائم النظام البعثي العديدة.

كان الألم أقوى من أن يُوصف، وكأن جزءًا مني قد مات معهم. كان عمري آنذاك سبعة عشر عامًا، ولم تُمحَ تلك الصور من ذاكرتي. أعيشُ لحظاتٍ مريرة، وتنهمر الدموع مني خلسةً، كأنها تحاول غسل آثار الرمال عن وجهي.

واليوم، عند رؤيتي لهذه المجزرة، دخلتُ في نوبةِ حزنٍ شديد، لم يلبث أن سرق كل شيءٍ جميلٍ مني، ليعيدني مجددًا إلى تلك الصحراء القاسية.

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here