
فاضل الحلو
منذ سقوط النظام السابق في عام 2003، دخل العراق مرحلة جديدة ومعقدة من تاريخه السياسي والاجتماعي والاقتصادي، سنوات طويلة من الحروب، العقوبات، الاحتلال، والصراعات السياسية خلّفت وراءها بلداً مثقلاً بالجراح، وبنية تحتية مدمرة، لكن ما لم يدركه البعض، أن مشروع بناء العراق الحقيقي لا يمكن أن يتم إلا عبر التضحية، لا بالشعارات، بل بالفعل والإرادة والإيمان بالوطن.
التضحية ليست مجرد شعارات
حين نتحدث عن “التضحية” في سياق بناء الدولة، فإننا لا نعني فقط تضحيات الجنود في ساحات القتال، بل تشمل مجالات أوسع: التضحية بالأنانية السياسية من أجل المصلحة العامة، التضحية بالمكاسب الحزبية من أجل وحدة الوطن، التضحية بالراحة الشخصية من أجل أداء الواجب، والتضحية بالمصالح الفئوية من أجل العدالة الاجتماعية.
تضحية النخبة السياسية
المشهد السياسي في العراق بحاجة إلى تحول نوعي في وعي النخبة السياسية. إن بناء الدولة لا يقوم على تقاسم السلطة والامتيازات، بل على تقديم رؤية وطنية طويلة الأمد تتطلب من الساسة التنازل عن المناصب إذا لزم الأمر، ومحاربة الفساد في صفوفهم، والعمل على تقوية مؤسسات الدولة لا إضعافها، وهذا يتطلب تضحية كبيرة قد تكون ضد رغبات القاعدة الجماهيرية أو المصالح الشخصية، لكنها ضرورية لمصلحة العراق.
تضحيات المواطن
المواطن العراقي نفسه مطالب أيضاً بالتضحية، ولكن ضمن إطار من الحقوق والواجبات. فالصبر على التحول السياسي، والمشاركة الإيجابية في الانتخابات، واحترام القانون، وعدم الانجرار وراء الفتن، هي أشكال من التضحية المدنية، المطلوب ليس فقط مطالبات بالحقوق، بل الإسهام في بنائها والحفاظ عليها.
تضحيات الكفاءات العراقية
العقول والكفاءات العراقية المهاجرة أو المهمشة مطالبة بالعودة والانخراط في مشروع بناء الدولة، أن تختار البقاء في الخارج هرباً من الواقع، أو ترفض العمل في الداخل بسبب الفساد أو قلة التقدير، هو قرار مفهوم إنسانياً، لكنه يُبقي العراق دون أدمغته، عودة هذه الكفاءات تمثل تضحية شخصية قد تكون شاقة، لكنها بالغة الأهمية في طريق النهوض الوطني.
الأمثلة الحيّة
عند النظر إلى تجارب دول خرجت من الحروب والانقسامات مثل ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية أو رواندا بعد الإبادة الجماعية، نلاحظ أن التحول لم يأتِ إلا بعد أن قدّم الجميع تضحيات جسيمة: في الوقت، في الموارد، في الجهد، بل وفي كرامة البعض ممن تنازلوا عن الانتقام من أجل المصالحة الوطنية.
الخاتمة
إن بناء العراق ليس مشروع يوم أو عام، بل مسيرة تتطلب وعياً وتضحية من جميع الأطراف: الدولة، المواطن، النخبة، والشباب. لا يمكن لعراقٍ قوي أن يولد من رحم الأنانية أو التناحر أو الطموحات الضيقة. نحن بحاجة إلى جيل جديد يرى في التضحية وسيلة للبقاء لا للفناء، وللإعمار لا للهدم.
ولعلّ السؤال الأهم الذي علينا أن نطرحه كل يوم:
هل نحن مستعدون للتضحية من أجل عراق يستحق الحياة؟
Post Views: 91