نصر الله.. أيقونة المقاومة وإرث الشهادة

0
66


فاضل الحلو

مدخل: رجل من زمن آخر

يا سيد الجنوب وفخر لبنان، يا مبعث افتخار العرب، وفارس الشجاعة، وسارية الدين، ورمح المظلومين وبندقية المقاومين… في الذكرى السنوية لاستشهادك، يقف الشرق كلّه على أعتاب سيرتك، ليستذكرك لا كقائد عابر، بل كرمز خالد أعاد تعريف معنى الكرامة في زمن الهزيمة.

لم يكن حسن نصر الله مجرد أمين عام لحزب الله في لبنان، بل كان عنوان مرحلة بكاملها. مرحلة قال فيها العرب إن الهزيمة قدر، وإن القوة الغاشمة لا تُهزم، فجاء من الضاحية الجنوبية رجل بملامح متواضعة، بعباءة سوداء وصوت مبحوح، ليقلب المعادلة: الاحتلال يُهزم، والضعيف يمكن أن يكون أقوى من الجيوش المدججة، متى ما امتلك الإرادة والإيمان.

السيرة والتحوّل إلى أيقونة

ولد نصر الله في بيئة فقيرة بجنوب لبنان، في عالمٍ من الحرمان والتهميش. لم يكن ابن قصر أو وريث زعامة تقليدية، بل ابن أرضٍ جريحة تشربت وعيها من رائحة البارود ودماء الشهداء. سرعان ما انخرط في العمل الديني والسياسي، متدرجاً حتى وصل إلى قيادة حزب الله في فترة مفصلية عام 1992 بعد اغتيال الأمين العام السابق السيد عباس الموسوي. ومنذ تلك اللحظة، دخل اسمه التاريخ، لا بصفته قائد تنظيم محلي، بل رمزاً للتحول الاستراتيجي في معادلات المنطقة.

نصر الله والمقاومة: من مشروع محلي إلى معادلة إقليمية

عند استلامه القيادة، كان حزب الله قوة محدودة في جنوب لبنان. لكن في ظل قيادته تحوّل إلى حركة مقاومة كبرى أجبرت إسرائيل عام 2000 على الانسحاب من معظم الأراضي اللبنانية المحتلة دون قيد أو شرط. كان ذلك الانسحاب سابقة في تاريخ الصراع العربي–الإسرائيلي، إذ لم يسبق أن انسحبت إسرائيل من أرض عربية بالقوة العسكرية وحدها.

وفي حرب تموز/يوليو 2006، جسّد نصر الله صورة “القائد المقاوم” أمام ملايين الشاشات. كان صوته الموجه إلى الجماهير يضاهي صواريخ المقاومة التي هزّت الداخل الإسرائيلي. حين قال: “المفاجآت التي وعدتكم بها بدأت الآن”، لم يكن مجرد تصريح إعلامي، بل لحظة كسر لهيبة “الجيش الذي لا يُقهر”.

من هنا، لم يعد نصر الله مجرد قائد لبناني. صار أيقونة عابرة للحدود، يلهج باسمه المقاومون في فلسطين، وتعلو صورته في العراق واليمن وسوريا. لقد بات عنواناً لمعسكر المقاومة في مواجهة مشروع الهيمنة الصهيو–أميركي في المنطقة.

البعد الفكري والإنساني

ورغم أن الإعلام غالباً ما ركّز على صورة نصر الله العسكرية والسياسية، إلا أن خلف عباءته كان ثمة مفكر إسلامي وإنساني بامتياز. خطبه لم تكن بيانات حرب فقط، بل كانت دروساً في الوعي، تحلل الواقع الدولي وتقرأ المشهد الاستراتيجي، وتزرع الثقة في وعي الجماهير.

لم يتحدث نصر الله بلغة النخب المنفصلة عن الناس، بل بلغة بسيطة يفهمها الفلاح في الجنوب والطالب في الجامعة والمثقف في بيروت. هذه البساطة الممزوجة بعمق فكري جعلت الجماهير ترى فيه “واحداً منهم”، وليس زعيماً فوقياً.

الشهادة كمسار ونتيجة

في الذكرى السنوية لاستشهاده، تبدو سيرة نصر الله وكأنها كانت تسير حتماً نحو هذه اللحظة. الرجل الذي عاش للمقاومة كان يعرف أن نهايته الطبيعية هي الاستشهاد، ومع ذلك لم يخفِ يوماً هذا المصير، بل كان يتعامل معه كجزء من قدَر القادة الكبار.

استشهاد نصر الله لا يمثل خسارة لحزب أو طائفة فحسب، بل يمثل لحظة مفصلية في تاريخ المنطقة. فهو يكرّس مقولة أن القادة العظام لا يموتون وهم جالسون في مكاتبهم، بل يكتبون بدمائهم الفصول الأخيرة من سيرتهم.

أثره على الداخل اللبناني

على المستوى اللبناني، كان نصر الله شخصية جامعة رغم الانقسام السياسي والطائفي. صحيح أن خصومه كثر، لكن حتى هؤلاء لم ينكروا وزنه وتأثيره. ففي بلدٍ مزقته الحرب الأهلية، شكّل نصر الله نموذجاً لزعيم خرج من طائفة محددة لكنه تجاوزها بفضل حضوره الكاريزمي ورمزيته الوطنية والإقليمية.

نصر الله وفلسطين

لا يمكن الحديث عن نصر الله دون التوقف عند فلسطين. فقد جعل من دعم المقاومة الفلسطينية جزءاً عضوياً من مشروعه. لم تكن تصريحاته عن فلسطين مجرد شعارات، بل التزاماً فعلياً بالمال والسلاح والخطاب. ولهذا، في كل انتفاضة فلسطينية أو مواجهة مع الاحتلال، كان اسمه حاضراً بوصفه سنداً ومعيناً.

الإرث بعد الاستشهاد

بعد استشهاده، يبقى السؤال: ماذا ترك نصر الله؟ الجواب ليس حزب الله فقط، بل منظومة فكرية ومقاومة ممتدة عبر المنطقة. ترك قناعة راسخة بأن إسرائيل يمكن أن تُهزم، وأن الولايات المتحدة ليست قدراً، وأن الشعوب إذا آمنت بقضيتها يمكن أن تغيّر المعادلات. ترك خطاباً سيبقى يُدرّس في فنون الحرب النفسية والإعلام المقاوم. ترك صورة “القائد الزاهد” الذي عاش بين الناس ومات من أجلهم.

الخاتمة: رجل أكبر من زمنه

في ذكرى استشهاد السيد حسن نصر الله، نقف أمام تجربة رجلٍ تجاوز كونه زعيماً لحزب أو قائداً عسكرياً. لقد كان حالة إنسانية وفكرية وروحية، رسم للأمة طريقاً مفاده أن الكرامة أثمن من الحياة، وأن الشهادة ليست نهاية بل بداية لمسيرة أخرى.

رحل نصر الله جسداً، لكنه بقي رمزاً يُلهب وجدان المقاومين، ويمنحهم الشرعية الأخلاقية والسياسية في معاركهم. سيظل اسمه يتردد كأيقونة للشجاعة والإيمان والصمود، تماماً كما بقيت أسماء كبار القادة في الذاكرة الإنسانية.

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here