
فاضل الحلو
ليس غريباً أن يقال إن الأم الصالحة تصنع الرجال، بينما تعجز الدول عن صناعة الأبناء، فكم من رجلٍ في تاريخ العراق خرج من بيتٍ فقيرٍ، وأمٍ تصلي في جوف الليل كي لا يخذله القدر، فصار وجهاً من وجوه الوطن، ورايةً من رايات مجده.
العراق، هذا البلد الذي وُلد من رحم المعاناة، لم ترفده السياسات بقدر ما ربّته الأمهات على الصبر والكرامة، فمنذ فجر التاريخ، كانت المرأة العراقية رمزاً للقداسة والقوة؛ من الأم البابلية التي علمت أبناءها الكتابة فوق الطين، إلى أمّ الشهيد التي زفّت أبناءها إلى المعارك وهي تبتسم بين الدموع.
لقد فشلت أنظمةٌ كثيرة في بناء الإنسان، لأن بناءه لا يتم بقرارٍ ولا بمنهجٍ جامد، بل بيدٍ حانية تُطعم قبل أن تُعلّم، وتغرس القيم قبل أن تزرع الطموح.
أما الأمهات في العراق، فقد أنجبن أجيالاً حملت الوطن على أكتافها، رغم فشل حكوماتٍ في أن تحمله بسياساتها.
في بيتٍ من الطين نشأ العلماء، وفي أزقةٍ ضيقة تربّى الشعراء، وفي مدارس بلا نوافذ كبر المناضلون، والسرّ في كل ذلك امرأةٌ صبورة، مؤمنة بأن الكرامة تبدأ من تربية اليد التي لا تمتدّ إلّا للخير.
وحين نقول إن الأم العراقية صانعة الرجال، فإننا نعني أنها صانعة الوطن ذاته؛ فالعراق، في جوهره، هو أمٌّ كبيرةٌ علّمت أبناءها أن يقفوا من جديد كلما سقطوا، وأن ينهضوا حتى لو تخاذلت الحكومات وضلّت السياسات.
لقد فشلت دولٌ كثيرة في صناعة الإنسان لأنها أهملت روح الأمومة في مؤسساتها، وغابت عن إدارتها مشاعر الحنان والمسؤولية، فصار المواطن رقماً لا ابناً، والمجتمع مشروعاً لا أسرة.
أما العراق، فعلى الرغم من أزماته، لا يزال يحتفظ بعنصر القوة الأعظم: أمٌ تؤمن بأن غداً سيكون أجمل، لأنها ربّت رجالاً لا ينكسرون.
إن الحديث عن الأم ليس ترفاً عاطفياً، بل تحليلٌ لجوهر القوة العراقية. فكل منجزٍ في تاريخنا، وكل بطولةٍ، وكل صمودٍ في وجه الحروب والدمار، يقف خلفه قلب امرأةٍ مؤمنةٍ بأن الوطن ابنها، وأنها مسؤولة عن نجاته كما هي مسؤولة عن طفلها.
وفي النهاية، حين تفشل الحكومات في بناء الأوطان، تنهض الأمهات لبناء الرجال الذين يعيدون الأوطان إلى الحياة.
وهكذا سيبقى العراق ما بقيت فيه أمٌّ تُصلّي عند الفجر، وتربّي ابنها على أن الكرامة لا تُورّث من حاكمٍ بل تُغرس في حضن أمّ.
Post Views: 145