حكمت البخاتي …
رغم ذم الظلم ومدح العدل في التراث الامامي وتحذير الرواية الامامية من دخول دوائر الجور والعمل مع السلطان الجائر حتى نهى الأئمة عن عقد خيط لحاكم جائر أو إبراء قلم لهم مخافة من المشاركة في أثمهم، إلا أن الفقهاء من الامامية اكتفوا بالنصوص المروية عن أئمة أهل البيت عليهم السلام وتوقفوا عند حدودها ولم يتحروا فيها التوسع والاستدلال الفقهي ولم نجد رسالة لهم في نقض الجور وتفنيد الاستبداد ولعل ذلك يعود الى طبيعة نهجهم وطريقتهم في الدرس والتحصيل العلمي – الفقهي ولعله اكتفاء بالمعنى الوافر في الاحاديث عن أئمة الهدى لاسيما خطب الامام علي بن أبي طالب وولده أبي عبد الله الحسين بن علي قتيل العبرات وأسير الكربات وضحية الجور والاستبداد.
وكذلك فكرة أو عقيدة الانتظار التي ألهمت فقهاء الامامية الصبر على سلوك الطغاة ومصائر الاستبداد فلم يتعرضوا للظلم ولم يخرجوا بحد السيف على الحاكم الجائر ولم يناقشوا في دروس ورسالات الفقه مسألة التصدي و مقاومة الجور والاستبداد، تسليما لأمر الله تعالى وقضائه وعملا ببعض الروايات الصادرة عن أئمة الهدى في تجنب كل راية ترفع قبل قيام القائم من آل محمد عليهم السلام ولعل مراجعة باب حكم الخروج بالسيف قبل قيام القائم في كتاب وسائل الشيعة الى تحصيل مسائل الشريعة ( ج 15 ) للشيخ محمد حسن الحر العاملي تكشف عن ايمان هؤلاء الفقهاء بالصبر على الجور والاستبداد انتظارا لقيام القائم من آل محمد عليهم السلام وظهور الحجة المؤيد بالنصر من الله تعالى.
لكن أول فقيه إمامي مارس التأويل في تلك الأخبار واجتهد في الاستدلال على وجوب مواجهة الجور والاستبداد هو العلامة المجتهد والمرجع في عصره الشيخ محمد حسين النائيني وقد كتب في ذلك كتابه الشهير (تنبيه الأمة وتنزيه الملة ) وكان الشيخ رحمه الله تعالى من مؤسسي وناشطي الحركة الدستورية ومن مجموعة الفقهاء المجتهدين من الامامية الذين تصدوا للاستبداد وصرحوا بالخطر الكامن فيه على الأمة واسلامها وحضارتها وهي في أوج المواجهة مع الغرب الاستعماري في مطلع القرن العشرين وكانت بداية حركة الاستعمار فيه.
وقد وجدوا أن الخطر يكمن في الداخل الإسلامي ثم في درجة ثانية في الخارج الغربي وموضع الخطر وخلاصة أزمة الشرق الإسلامي هو في الاستبداد وطغيان الملوك والسلاطين واقصاء الشعب والأمة عن الحكم والمشاركة في صناعة القرار وإدارة شؤون البلاد، فأنشات حركة المشروطة وهي التسمية الدارجة للحركة الدستورية في ايران والعراق في العقد الأول من القرن العشرين وكانت المشروطة قد وضعت في قبالة المستبدة وهي وجهة نظر بعض الفقهاء ممن لا يرون شرط الدستور والانتخابات ومشاركة الأمة في إدارة الحكم ونظام الدولة وهي عناصر الحركة الدستورية أو المشروطة التي نظر لها ورسخها فقهيا الشيخ النائيني وكانت مجموعة المستبدة تعتمد تأويل آخر لعدد من الروايات والاخبار عن أئمة الهدى والتي لم تغب عن ذاكرة ومراجعة فقهاء الدستورية او المشروطة ونجد مناقشتها في ثنايا هذا الكتاب المهم لكنها إما تجري مجرى التأويل الناقض لديهم لفكرة المستبدة والتسليم للاستبداد أو تعارض بروايات أكثر رجحانا وأقرب في المعنى الى كتاب الله تعالى المأمور بعرض الروايات عليه في حديث الامام أبي عبد جعفر بن محمد الصادق والأخذ بما يتوافق واياه وهو ما صنعه الشيخ النائيني في اجتهاده في الدستورية ونقض الاستبداد.
ولعل اهم ما تمسك به فقهاء المشروطة ونابذي الاستبداد ومعارضيه هو موقف الامام الحسين بن علي عليه السلام في يوم الطف وفي كلماته في واقعة كربلاء ولذلك كان في مستند ومصدر الشيخ النائيني في رؤيته الفقهية في معارضة الاستبداد ومكافحة الجور فيقول ( فعلم المسلمون أن الحرية التي منحها الله سبحانه لهم تصطدم مع الرقيّة لفراعنة الأمة واستأنسوا بالحقوق المشروعة كالمساواة والمشاركة في جميع الأمور مع الحكام …. ومعلنين ان إراقة دمائهم الطيبة في سبيل هذا الهدف هو من أعظم ما يوجب السعادة والحياة للشعب ومؤثرين التضمخ بالدم على الحياة الذليلة الأسيرة للظالمين وقد تعلموا كل هذا من سيد المظلومين عليه السلام حيث قال ” …ونفوس أبية من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام ” ) تنبيه الامة وتنزيه الملة ، محمد حسين النائيني ، تقديم الشيماء العقالي ، تحقيق عبد الكريم آل نجف ، تعريب عبد المحسن آل نجف ( ص 95 – 96 – ) وهي تكملة في خطبة الامام في يوم الطف التي ألهمت الحركة الدستورية وغذتها بعناصر الثورة ومقاومة الاستبداد حيث يقول الامام ( الا وأن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة وهيهات منا الذلة يأبى الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنون وحجور طابت وطهرت وأنوف حمية ونفوس أبية …) .
Post Views: 2٬524