د. حسين على السلطاني …
تميّز بيان المرجعية الأخير عن غيره من البيانات التي صدرت عنها خلال فترة التظاهرات التي شهدها العراق خلال الشهرين الماضيين ، بأنه عالج الأزمة من جميع جوانِبها ، و بيّن وظائف و مسؤوليات كل طرف من أطرافها بوضوح تام ، و بالتالي رسم خارطة طريق دقيقة ، إذا ما إلتزم بها الجميع ستتحول هذه الأزمة السياسية التي نعيشها إلى فرصة ثمينة لمعالجة الخلل الكبير في نظامنا السياسي وأدائنا الحكومي ، و ستعود نتائجها بالنفع على الجميع ، بعيداً عن المزايدات و الخصومات و تصفية الحسابات ، و نقف هنا على معالجة هذا الموضوع الحساس و الخطير من خلال النقاط الآتية :
النقطة الأولى : موضوع التظاهرات.
أكد سماحة السيد المرجع ( دام ظلّه الشريف ) على مساندة الإحتجاجات ، و التأكيد على الإلتزام بسلميتها ، وخلوها بأي شكل من أشكال العنف . و السؤال المهم الذي يُطرح هنا : كيف سيتم ذلك ؟
حدث التظاهرات و الإحتجاجات فيه أطراف متعددة ، فإذا ما أردنا لهذه المظاهرات أن تحقق كامل أهدافها وبأقل درجة من الخسائر ، يستدعي من كل طرف من أطرافها أن يؤدي دوره فيها على أكمل وجه ، و من أهم هذه الأطراف :
١- المتظاهرون أنفسهم .
وتتمثل وظيفتهم الأساسية ، وفق توصيات المرجعية العليا بما يأتي :
أ- المحافظة على سلمية التظاهرات و عدم التهاون أو السماح لأي طرف ، وتحت أي مبرر بإختراقها و حرفها عن مسارها الصحيح ، بقصد أو دون قصد ، و يتم ذلك من خلال تشكيل لجان خاصة وظيفتها تحديد مواضع الخرق و التعاون مع الأجهزة الأمنية لمعالجتها وفق القانون ، لان التهاون او التسامح لإنجرار المظاهرات نحو العنف لأي سبب كان سيتيح الفرصة للقوى المتضررة من عملية الإصلاح لتشويه سمعة المتظاهرين و إجهاض مشروعهم الإصلاحي .
ب- أن يضع المتظاهرون أهدافاً سامية لمظاهراتهم وان يتم التركيز في مطاليبهم على مواضيع محددة و أساسية تُمثل تطلعات و آمال الشعب العراقي بأسرهم، دون الدخول بقضايا خلافية و صراعات جانبية ؛ ليبرهنوا للجميع أنهم أصحاب مشروع مقدس ، لا ينطلق من آفاق ضيقة تحركها الغرائز وتسيرها الأهواء وتغذيها دوافع الثأر وحب الانتقام وتصفية الحسابات ، بل لابد أن يكون الدافع هو حب الوطن والمواطنين بأجمعهم وتحقيق الإصلاح لهم ، وهو – الإصلاح – بدوره كفيل بإنصاف المظلوم والإقتصاص من الظالم ، إقتداءً بمنهج أمير المؤمنين علي “ع” في تعامله مع مخالفيه الذي حدده بقوله : ( اللهم إنّك تعلم إنّه لم يكن الذي كان مِنّا منافسة في سلطان و لا إلتماس شيء من فضول الحِطام و لكن لِنرد المعالم من دينك و نظهر الإصلاح في بلادِك .
وهو ذات النهج الذي كشف عنه الإمام الحسين عليه السلام بقوله : ( إنّي لم أخرج أشِراً ولا بطراً و لا مُفسداً و لا ظالماً و إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي رسول الله ) . حتى نتمكن أ ن نبني بلدنا ونحقق السعادة لشعبنا ، ففي ظل المحبة والتعاون تبنى الأوطان وتزدهر الشعوب وتتحقق العدالة ، وليس في ظل الكراهية والعداوة والتفرقة والصراعات ، والتجربة الإنسانية ماثلة أمام الجميع ،فما من أمة من الأمم شهدت نهضة وحققت تقدما الا وكان العلم رائدها والقيم والفضيلة منطلقها ، وما من خراب أ وتأخر إلا وكان الجهل والانحطاط والإثم والعدوان يقف وراءه ( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ) المائدة / 2
ج : أن يتجنب المتظاهرون الإحتكاك بالقوى الأمنية أو التصادم معهم ، لأن ذلك سيشوه سمعتهم أولاً و يُفشل مشروعهم الإصلاحي ثانياً و يتسبب في إزهاق أرواح بريئة من كلا الطرفين ثالثاً، وكل ذلك لا مبرر له عقلاً و لا مسوّغ له شرعاً ، ولا ينسجم مع الفطرة الإنسانية السليمة فالتعاون مع القوى الأمنية و المحافظة على هيبتها و مساندتها للقيام بوظائفها بمهنية و حيادية تامة ، سيساهم بدرجة كبيرة بتحقيق أهداف المتظاهرين من جهة ، و يجنب البلد مخاطر الإنزلاق بالفوضى و الإقتتال الداخلي من جهة أخرى
د : إن اية حركة يُراد لها النجاح و المحافظة على سلامتها من الإنحراف لا بدّ لها من بوصلة تُحدد أهدافها ، و توجه مسيرتها ، وتضبط إيقاعها وحتى تُحَقّقَ هذه البوصلة غرضها لابد أن يتوفر فيها شرطان : المعرفة التامة بالغرض أولاً و الأمانة الكاملة في المحافظة عليه ثانياً ، ومن أبرز المصاديق الحائزة لهذين الوصفين في بلدنا هو المرجع الأعلى السيد السيستاني ( دام ظله الشريف ) فإذا ما أراد المتظاهرون تحقيق أهدافهم بأقل الخسائر و أقرب الوقت ، و ضمان مسيرتهم من الإختراق أو الإحتواء أو الإنحراف ، فما عليهم إلا أن يجعلوا توصياته نصب أعينهم ، و يضعوا توجيهاته موضع التنفيذ أمامهم ، لأنها سبيل النجاة وطريق الهداية : ( أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمّن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون ) يونس/٣٥
٢- القوى الأمنية
تمثل القوى الأمنية على مختلف اصنافها احد اهم الركائز الاساسية للمحافظة على المتظاهرين و سير المظاهرات بالإتجاه الصحيح وإنما يتم ذلك إذا ما إلتزمت هذه القوات بواجباتها بدقة وأدت مسؤولياتها بانضباط عال ، فمن واجباتها الأساسية في هذه المرحلة حماية المتظاهرين السلميين و التعامل معهم بإحترام كبير و عدم اللجوء الى إستخدام القوة معهم والسيطرة على إنفعالاتهم عند موارد الخروقات الجزئية والبسيطة التي تصدرعن المتظاهرين في حالات الغضب ، لكن في نفس الوقت عليها أن لاتتهاون مع مظاهر الخرق للإحتجاجات أو حرفها عن مسارها الصحيح ، بما يؤدي الى تخريب دوائر الدولة و تعطيل منشئاتها أو الإعتداء على الممتلكات العامة و الخاصة ، لأن ذلك أيضا من وظائفها القانونية الحصرية
إن قيام القوات الأمنية بهذا الدور المتوازن وبالتالي إستطاعتهم من اخراج بلدهم و شعبهم من هذا المأزق بسلام سيجعلهم موضع فخر و إعتزاز لكل أبناء الشعب العراقي و سيسجل لهم التاريخ هذا الموقف المشرف بأحرف من نور
٣- أداء الحكومة و القوى السياسية .
يقتضي من الحكومة و القوى السياسية المؤثرة في القرار السياسي ان تعي حجم التحديات التي تواجه البلد ، و تدرك حجم مسؤولياتها الجسيمة في هذا المقطع التأريخي الحساس و بالتالي يجدر بها أن تكون جادة تماماً في تحقيق الإصلاحات الجذرية و ضمن سقوف زمنية محددة ، كما أن على الحكومة تحديداً أن توازن في أدائها بين توفير الحماية للمتظاهرين و ضمان سلامتهم من أي إعتداء – سواء من أجهزة الدولة
أو غيرها – و السعي لتلبية مطاليبهم المشروعة و الممكنة بأقرب وقت ممكن ، و بين أن تحافظ على المصالح العامة للبلد و تسيير إدارات الدولة بإنتظام ، خصوصاً الخدمية منها ، و فرض إستتباب الأمن و عدم السماح لإنزلاق البلد بإتجاه الفوضى و الصراع الداخلي ، مهما كلّف الأمر … لأن الخسارة حينذاك ستكون فادحة و مضاعفة في حال إنهيار المنظومة الأمنية و إنفلات الأمور ( لا سمح الله) .
النقطة الثانية : موضوع الإصلاحات .
هذا هو الهدف الأساسي من التظاهرات و الإحتجاجات ، و تطرح في هذا المجال تساؤلات متعددة :
السؤال الأول : ما مستوى سقف الإصلاحات ؟
الإصلاحات التي يطالب بها أغلب المتظاهرين ، و أكدت عليها المرجعية العليا هي الإصلاحات التي تكون تحت سقف الدستور و من خلال الآليات القانونية المتاحة و لها مستويان :
المستوى الأول ، و هي الإصلاحات المرتبطة ببنية النظام السياسي و إطاره القانوني العام ، ومنها قانون الإنتخابات والمفوضية ، و هذا المستوى من الإصلاحات هو الأهم و الضروري ، ففي حالة معالجته سيتم القضاء في الواقع على كثير من الآثار السلبية التي يعيشها البلد ، ويتجرع مرارتها المجتمع ، كالمحاصصة ، و الفساد ، و الإستئثار بالمناصب .
أما في حالة عدم تمكن القوى السياسية من تنفيذها فستكون الإصلاحات الأخرى شكلية ولا تعالج أصل المشكلة ، وفي هذا الإطارإذا تمت الإصلاحات تحت سقف المادة (١٤٢) فستكون المعالجات ترقيعية ولا تلامس جوهر المشكلة ، أما إذا كانت منبثقة عن المادة (١٢٦) فستيتح للجنة المكلفة بتنفيذها فرصة أكبر للمعالجة ، لكن في كل الأحوال ما لم يكن الضغط الجماهيري موازياً لعمل اللجنة و متابعاً لخطواتها ، ومصراً على إجراء تعديلات حقيقية و أساسية من قبلها فإنها غير قادرة لوحدها على إنجاز مهمتها بالشكل المطلوب .
المستوى الثاني : وهي الإصلاحات المرتبطة بالجانب التنفيذي ، ومن أهم عناوينها : مكافحة الفساد ، إلغاء إمتيازات كبار المسؤولين ، و الإبتعاد عن المحاصصة و المحسوبيات في تولي الدرجات الخاصة ، و المعالجات على هذا الصعيد مهمة و ضرورية ، لكن فيها الكثير من التفاصيل تستدعي مقالاً مستقلاً ، و لا بد من الإشارة هنا أن ما ذُكر من عناوين تستدعي الإصلاح إنما هي عناوين لإبرز المصاديق و إلا نحن بحاجة إلى مراجعة جادة لكل المناهج المعتمدة في إدارات القطاعات الأساسية ، التربوية ، و الإقتصادية و الأمنية و الإدارية و …. .
النقطة الثالثة : التدخل الخارجي في موضوع الإصلاحات .
من التحديات الكبيرة التي تواجه موضوعة الإصلاحات هو سعي العامل الخارجي و قوى داخلية غاشمة ، على رأسها تنظيم حزب البعث المجرم إستغلال المظاهرات و جرّها لصالح أهدافهم المشؤومة ، و الضمانة المعول عليها لإفشال هذا المخطط الخبيث هو وعي المتظاهرين و إلتزامهم العملي بتوجيهات المرجعية و توصياتها السديدة .
بقي أن نشير هنا في خاتمة المقال إلى ضرورة أن تكون الحلول المعتمدة لجميع الإشكاليات التي يعيشها واقعنا السياسي من خلال معالجة الأسباب و ليس بمعالجة النتائج لإنها ستكون متكررة مهما إجتهدنا في القضاء عليها.
نسأل الله ان يحفظ بلدنا ويجنب شعبنا كل سوء.