تقرير / جواد عبد كاظم …
لم تعًد الكلمات تداوي جرح المنفى وتكسر صمت الخوف من اللا مستقبل ، والأشياء لم تعد كما هي فكل شيء تغير ، كبر ذاك الطفل في سنين العتمة والرهبة ، كان صغيرا غضا يوم اقتادوه وهو في طريقه إلى المدرسة يحمل كتبه ودفاتره المدرسية طالبا في المتوسطة لم يبلغ الحلم ولا يعرف عن الحب الا الضحكات والطفولة تعيش في داخله ، أخذوه ليصبح السجن بيته وجدرانه أصدقاءه ، الجدران بدأت تستنطقنه وتحاكيه كأنها عشقت رائحة الطفولة ، تبدد الخوف بينهما ، مرت السنون وبدأ جسده ينحني وهو يجلس القرفصاء ، ينتظر قدوم أمه في زيارتها المعتادة ، أبوه ! مات أبوه بحسرة الفراق والصمت يرفض أن يشترك في جريمة القتل هذه ، أخبرته أمه في زيارتها الأخيرة لم يعد هناك متسع في بيتنا كما يحلو له أن يسميه ، بل هو بقايا كوخٍ منسي ، كل شيء هو لا شيء حتى الأسرار ليس لها مكان في قلوبنا.
كل هذه الصور العالقة في روحه وجسده مرت بزحمتها في لحظة ألم وهو يمعن النظر الى لافتة كتب عليها مؤسسة السجناء السياسيين ، فهذه المؤسسة لم تعد مؤسسة حقوق وامتيازات كما يتصورها البعض ، بل هي أحد أعمدة الحرية ضمن مؤسسات العدالة الانتقالية ، ورافد مهم في ديمومة الحياة المجتمعية العراقية ، فأبناؤها الذين ينتشرون في المحافظات كافة ، أصبحوا اليوم أداة فاعلة ومنتجة في بناء الدولة العراقية المدنية الجديدة ، فضلا عن مشاركتهم في جبهات القتال في الدفاع عن الأرض والعرض ضد التكفيريين الغزاة ، لكن للأسف قد يتصور البعض إن حركة الحياة قد خذلت هذا النوع من الحماس الوطني ، وأوشكت أن تكذب رؤيته لأنها لم تنحاز للقيم الحضارية الكبرى التي تتجلى في العلم والرخاء والحرية .
متحف السجناء وتوثيق حقبة البعث الجائر
منذ تأسيس المؤسسة في عام 2007 والى الان لم تقم المؤسسة ايما متحف للسجناء السياسيين حتى شرع الدكتور السلطاني باعتباره اول رئيس للمؤسسة من السجناء السياسيين بافتتاح اول متحف للسجناء حرصاً منه على توثيق تلك الحقبة المظلمة التي عاشها الشعب العراقي عامة والسجناء السياسيون خاصة وكشف اساليب البعث وجرائمه التي يندى لها جبين الانسانية ،وتدوين أحداثها وتحليل مجرياتها ومعرفة أسبابها وآثارها المأساوية ، ونقلها بأمانة الى الأجيال اللاحقة من أجل الحيلولة دون تكرار مأساتها . وهو بذلك يكون قد وضع حجر الاساس لمثل هذه الاعمال التوثيقية التي تحتاج الى حضور كبير وواسع من منظمات مجتمع مدني ومنظمات حقوق الانسان والسادة المسؤولين في الدولة ليأخذ المتحف مداه وليبدد بثقافته ثقافة النظام المباد .
السلطاني : دائرة العلاقات والاعلام مسؤولة عن توثيق تلك الحقبة
وقال السلطاني في كلمة له عند افتتاح المتحف : ان التوثيق مسؤولية يتحملها أبناء الشعب العراقي ، لكن المسؤولية تتضاعف لتصل حدّ الواجب العيني على ضحايا النظام المباد ، كعوائل الشهداء والسجناء والمعتقلين السياسيين ؛ لأن هذه العوائل الكريمة عاشت الظلم والإضطهاد ووقفت بشكل مباشر على حجم الجرائم والإنتهاكات الخطيرة التي ارتكبها النظام البعثي بحق الشعب العراقي ، مؤكدا : إن هذه الشرائح مسؤولة ومعنية أكثر من غيرها عن توثيق هذه الحقبة ، وقبل كل ذلك فهي مسؤولية المؤسسة بشكل عام ودائرة العلاقات والاعلام بشكل خاص وهي تتحمل مسؤولية كبيرة تجاه ما حصل في العراق من جرائم خلال العقود الثلاثة الاخيرة من القرن الماضي .
مرحلة البعث أسوأ مرحلة مرّ بها الشعب العراقي
إن حديث رئيس المؤسسة كان له من الإقناع والإمتاع ما له ، فبعد أن جاز بنا سور الصين العظيم لنحط ّ فيها قال : إن التوثيق التجسيمي والتشكيلي تهتم فيه المجتمعات الحية التي تحترم تأريخها وتسعى للإفادة منه في حاضرها ومستقبلها ، مضيفا : سافرنا قبل أكثر من سنة الى الصين وهي من الدول التي تهتم بالمتاحف وتوثيق تأريخها ، فلا معركة جرت في الصين إن ظافرة أو خاسرة ، وكل ما مرت عليها في مقاطع تأريخها من الأنظمة الدكتاتورية إلا وكانت موثقة لديها ، ولها برنامج يقضي بزيارة الجامعات كل الجامعات وطلبة المدارس بزيارة هذه المتاحف ، مؤكدا : إن المتطلع الى أي تاريخ سياسي كتأريخ حزب البعث إذا أراد أن يقرأه فتأخذ هذه القراءة وقتا غير قليل للإطلاع ، لكن ممكن أن تتجول ساعة في أروقة متحف ما لتتجسد أمامك صورة كافية عن هذا التاريخ … عن ممارساته ضد الشعب العراقي ، من هنا يتبين لنا إن المتاحف غاية في الأهمية لاسيما توثيق مرحلة البعثيين ؛ لأنهم عاثوا في الأرض فسادا وأهلكوا الحرث والنسل ، فهي بحق أسوأ مرحلة مرّ بها الشعب العراقي .
البعث والإعدام لأبسط الأسباب
واصل الدكتور السلطاني حديثه : في الحقبة التي حكم بها البعثيون وخصوصاً في فترة الديكتاتور صدام عاش العراق فترة قمع واضطهاد بأستثنائية بكل معنى ، بحيث صار الفرد العراقي متهماً ومداناً وقد تصل هذه الادانة حد الاعدام لمجرد ان يلتزم بأداء شعيرة من شعائر الدين كأداء الصلاة مثلا او زيارة المراقد بل حتى أرتياد المساجد او ارتداء الحجاب ناهيك عن معارضة النظام وانتقاده بأبسط عبارات الانتقاد .
إخوتي الأعزة : بعد مرور عقدين من الزمن على تغيير النظام فأننا لا نزال نعيش آثار أفكار حزب البعث المدمرة فكل مظاهر الخراب وبؤر الفتن وأثارة عوامل التفرقة والاختلاف تقف وراءها أفكار البعث ومخططاته الإجرامية.
من هنا تبدو عظم المسؤولية وكم هي كبيرة تجاه كشف جرائم هذا الحزب وانتهاكاته الخطيرة .
وفي ختام حديثه قدم السلطاني شكره وتقديره لمؤسسة الشهداء متمثلة برئيسها الاستاذ عبد الاله النائلي على تعاونه مع مؤسستنا وموافقتهم على تهيأة هذا المكان المناسب كما قدم شكره وتقديره لدائرة العلاقات والاعلام على انجاز هذا العمل التوثيقي وتحقيق هذه الخطوة المهمة والضرورية ، سائلاً الله ان يوفقنا جميعا للنهوض بهذه المسؤلية الكبيرة والحمل الثقيل .
مقتنيات تحكي الظلم والاضطهاد
قال معاون مدير عام دائرة العلاقات والإعلام الأستاذ بشير الماجد : ضم المتحف مقتنيات اثرية متميزة وصورا تذكارية للسجناء السياسيين تحكي المعاناة والالم من داخل سجون ابي غريب ونقرة السلمان وسجن العمارة ، ووثائق رسمية كان النظام البعثي يدين بها ابناء الشعب العراقي واليوم صارت مصدر إدانة ضده لاسيما امام الرأي العام وجميع الشرفاء ، من هذه الوثائق أحكام بالإعدام وإلقاء قبض حتى وصلت الى ممانعة النظام من إقامة او بناء جامع .
كما ضم المتحف مخطوطات يدوية ومجموعة كبيرة من ادوات ووسائل التعذيب التي كانت تستخدم آنذاك ، واسهمت ريشة الفنانين من السجناء السياسيين اسهاما فاعلا في كشف جرائم البعث من خلال اللوحات التي تمثل ضروب العذابات والوان الوحشية التي كان يقاسيها السجناء السياسيون .
اضافة الى الكتب التوثيقية التي خطت بأنامل المعذبين من السجناء السياسيين والتي هي من اصدارات المؤسسة ضمن السلسلة الذهبية والتي توثق جرائم النظام المباد .
وختم الماجد حديثه بتوجيه دعوة لكل السجناء وذوي الشهداء ممن لديهم اي موروث يمكن المساهمة به في المتحف ، وكدائرة اعلام سنستقبل بدورنا كافة المقترحات التي من شانها الاسهام في تطوير هذا الصرح الانساني .
آراء في المتحف
كان للاخوات والاخوة من السجناء السياسيين رأيهم ومشاعرهم بالمتحف ، وفي احد اروقته التقيت السجينة السياسية فاطمة حسان المقدادي الناطق الرسمي لمنظمة شواهد لحقوق الانسان وهي من السجينات اللائي قضينَ عشر سنوات في سجون صدام ، حيث اجابت : بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين تكلل الصبر بالبشرى والفرج وتكللت آهاتنا بالنور والسرور بافتتاح متحف السجناء السياسيين الذي يحكي تأريخا بكلمة …الذي يفسر للناظرين مدى بشاعة ووحشية الاجهزة القمعية بآلات التعذيب والموت والدمار ، ولولا المطالبات والمتابعات الحثيثة من لدن رئيس المؤسسة وكادرها الاداري والقسم المعني لما كان هناك معلم تأريخي لسجناء الرأي الاحرار الذين صمدوا وقهروا نظاماً ديكتاتورياً مستبداً كمم الافواه وسلخ الارواح متناسياً بأن السماء مهما دكنت غيومها بالسواد وحملت من امطار بأن الشمس هذا موقعها ولا بد لها من ان تظهر وتضيء العالم لتنعش الارض بزرعها والسماء بزرقتها ، وهذا دليل قاطع بأن الحزن لا يدوم ، وان الشدة والضيق بعدهما سعادة وانفراج وان الصبر مفتاح الفرج . والى مزيد من الابداع والتألق ؛لاننا مهما عملنا من عمل فأنه لا يوازي حجم المعاناة وجسامة القمع زمن حكم البعث المقبور البعيد كل البعد عن الإنسانية والإنسان .
وقال السجين السياسي مدير عام دائرة شؤون المديريات واللجان الخاصة الاستاذ جبار موات كسار: بعد ان كاد ينسانا التاريخ فينسى حقبة مظلمة من تأريخ العراق وهي حقبة البعث المجرم التي يسعى الكثير لتناسيها او طمسها ومحوها من تأريخ العراق وهي حقبة مهمة نذكر بها اجيالنا وأبناءنا بما مر على الشعب العراقي من مآس لازلنا نتلمس آثارها وستبقى كذلك لعشرات السنين .
فيما كتب السجين السياسي الذي قضى عشر سنوات في زنازين البعث الشيخ رحيم الساعدي في مواقع التواصل : متحف احرار العراق وابطاله الذين نهجوا نهج سيد الشهداء وساروا على دربه، الذين قالوا للطاغية المجرم صدام كلا بملء افواههم في زمن شحت الالسن ان تقولها ، وتحملوا في ذلك ما لم يخطر على بال احد وما لم يستطع البيان المفصحة عنه فسطروا خلف القضبان ملاحم ما زال الشعب العراقي لم يطلع عليها ، وينبغي ان يعرف حجم معاناتهم في سجون جلادهم المجرم … لذا كان هذا المتحف .
وفي الختام : سعت مؤسسة السجناء السياسيين في هذه المرحلة التاريخية من وجودها إلى ترتيب سلم الأولويات العملية والفكرية لعملها التوثيقي المتوازن مع رؤاها واطروحاتها، ومن خلال المساعي التي يعمل عليها رئيس المؤسسة الدكتور السلطاني في تعزيزه للثقافة التاريخية للسجناء السياسيين وتحديد الهوية المرجعية لهم من حيث الأصالة والاعتبار لقيمهم الحضارية، كل ذلك ساعد المؤسسة في التوازن ، حيث بدأت تقييم الحالتين : العامة والخاصة لوجودها وللمنتمين لقانونها بحسب المقبولية لدى المؤسسة لا بحسب مقبولية اي مجموعة أخرى، فاليوم المؤسسة تسير بالتداخل الحصيف بين طرفي المعادلة الصعبة (التوثيق والحقيقة) لذا هي تبحث دائما عن المسلك الأفضل لتأمين حقبة مرت بكل معاناتها . فقد شرعت المؤسسة للنهوض بمهمتين في آن واحد ، الأولى : خطابها الثقافي الأخلاقي المعبر عن مرجعيتها وأصالتها، والثاني :رسالتها التثقيفية للجميع وذلك لتحقيق القدر المعهود من الفهم والإفهام وتعريف الرأي العام بأحقية هذه النخبة التي افنت سنواتها في سجون البعث.
Post Views: 1٬965