حكمت البخاتي …
يشكل الوعي بداية انجاز أو تحقق الوجود فهو سابق على الوجود، لا سيما في التجارب البشرية ، وفي حالة الوجود الاجتماعي فانه يتطور تناسبياً مع تطوره حتى يدخل أقصى مراحله وحينها يكون الوعي بالتاريخ هو بداية انجاز أو تحقق الوجود الاجتماعي بشكله ومضمونه الهوياتي و يندمج هذا الوجود في حقيقة الواقع بانتاج الذات الاجتماعية الواعية بوجودها وهو تاريخياً المفصل الاساس في انتاج الحضارة .
فالوعي بالذات هو مصدر التكوين للخصائص والسمات ورسم الحدود الفاصلة الخاصة بهذه الذات الواعية لوجودها وبوجودها التاريخي، وتاريخياً يرتهن الوعي بالذات بانتاج الوعي الحضاري الذي يشرع في انجازات وتأسيسات الحضارة، فالحضارة في اكتمالاتها القصوى هي تعبير عن الوعي بالذات وضرورة تأصيل وجود تاريخي للذات الناتجة عن الوعي والمنتجة للحضارة .
ولعل الدولة هي أول عتبة يخطوها الوعي في انجاز وتحقق الحضارة ، فالحضارة تاريخيا قامت اتساقا وتنسيقا مع مفهوم الدولة وهو ما يمنح الدولة مكانة منتجة ومولدة بين الوعي والحضارة أو هي واسطة العقد بين الوعي والحضارة في انجازات الوعي الأولى ، ويعكس مفهوم الدولة تاريخيا واجتماعيا الوعي بالذات التي تكون الدولة في انجازها وتحققها استجابة الى ضرورات هذا الوعي أو استجابة مباشرة الى متطلبات الوعي بضرورات الحياة، اذ يتشكل الوعي بهذه الذات في شبكة هذه الضرورات التي تفرضها الحياة ومتطلباتها والتي تؤمّن انجازها وتحققها في الدولة ، ما يكشف في المدى المعرفي والتاريخي عن ارتهان الحياة البشرية بالدولة.
وفي ظل غياب الدولة تكون الحياة مهددة وقابلة للزوال وهو ما تؤكده التجارب والوقائع في تاريخ المجتمعات والأمم فقد تعرضت المجتمعات البدائية في أفريقيا وقارة أميركا الى الابادة والزوال بسبب غياب فكرة ونظام الدولة لديها بينما نجت مجتمعات آسيا وأوروبا بفضل فكرة ونظام الدولة التي ظلت مجتمعات تلك القارتين حريصة على انشائها والدفاع عنها، فكان تاريخ هذه المجتمعات عبارة عن تاريخ دولها أو تاريخ حضاراتها .
بينما ظلت المجتمعات البدائية غير واعية لذاتها التاريخية فهي لم تخرج عن اطار الطبيعة أو الانتماء الجماعي الى الذات اللاتاريخية أو الذات المتخيلة في سرديات عوالم ما قبل التاريخ أو بالأحرى ما قبل الزمن وهي الذات الطوطمية ما يدعها مسلوبة الانتماء الى ذاتها أو غير قادرة على الوعي بذاتها التاريخية ما أفقدها الوعي بالتاريخ، فأصبحت غير قادرة على دخول التاريخ الذي يشترط الدولة كعتبة أولى في تمثله وانتمائه .
فالدولة تعبر عن الوعي التاريخي بالذات أو تكون هي لحظة الذروة بالوعي بالذات وهو المعنى الذي يظلل التعريفات الحديثة للدولة ويشكل ايديولوجيتها بامتياز فدولة القانون ، الدرك ، الحماية ، الرفاه ،الخ ، كلها لا تخرج عن معنى الدولة في تناول موضوع الذات سواء بصيغتها الفردية أو الاجتماعية .
وبالقدر الذي تشكو فيه الدولة من ارتباك التأسيس واختلال التنظيم فانها تعبر عن ارتباك هذه الذات بكلتا صيغتيها الفردية والاجتماعية، وبحثيا تؤشر اختلال توصيفات هذه الذات فهي ذات غير ناضجة تاريخيا بل هي تنتمي الى مديات أخرى خارج التاريخ الحديث أو خارج مديات الحاضر، فضلا عن انزوائها المطلق عن المستقبل وتنتمي الى الماضي وفق متطلبات مركب النقص الحضاري الذي يتركب بنيويا في الذات الفاقدة للدولة ما يدع هذه الذات الاجتماعية منتجة للقيم الماضوية في العشائرية والطائفية والمناطقية والفئوية باعتبارها القيم البديلة عن الدولة وأسوأ هذه القيم البديلة في ظل غياب الدولة هو الارتهان بالارادات الدولية والاقليمية فهي تعطل القدرة على بناء الدولة نتيجة عن تعطيلها القدرة على الوعي بالذات هو شرط بناء الدولة أو هو التعريف الأكثر دقة للدولة.
Post Views: 1٬429