عبد الرحمن اللامي ..
اختار الكثير من رفاق المحنة من السجناء السياسيّين ـ بعد أن منّ الله علينا بالفرج والحريّة ـ الانطواء والعزلة عمّا يدور من حوله من ظلمٍ اجتماعيّ، وأصمّ أذنيه عن أنين المستضعفين وآهاتهم، ونأى بنفسه عمّا يجري من فساد وخراب في مرافق الدولة والبلاد، وكأنّه حان وقت تقاعده عن مهنة كان يمتهنها.
فإنّي سألته حينما دعاني الى الحضور في عُرْس ابنه البِكْر: ماذا تعمل؟ وماذا تقرأ؟ وماذا تكتب؟ وكيف تُنهي ساعات أيّامك الباقية؟ فابتسم ابتسامة متهكّمٍ عن نفسه وقال: لا شيء.. لم يبقَ من العمر بقيّة.. فأنا في الستّينيات من العمر.. وها أنا أدورُ ما بين ارتفاع الضغط وانخفاض السكّر.. منتظراً ساعة الصفر.
لقد كان ذا همّة عالية ونشاط دؤوب، في تلك الأيام الصعبة التي قضيناها سويّة في السجن المغلق، فهو كان أستاذي في ثلاثة فنون على الأقلّ، وهي: النحو والبلاغة والعَروض، إضافة لتحفيظه القرآن لنا، فقد كان حافظاً للقرآن كلّه.
تألّمتُ في داخلي على حال أستاذي كثيراً، ولأنّني كنتُ ما أزال أهابُهُ فلمْ أجرأْ على إظهار استيائي في حضرته، وها أنا ذا أكتبُ له ما كان يعلّمني إيّاه سابقاً، من استغلال الفرص أقصى استغلال، وعدم الاستسلام أبداً لأعتى الظروف وأقساها، وأتذكّر كيف كان يروي لي عن الرّسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «إنْ قامت الساعةُ وفي يدِ أحدِكُم فَسيلَةٌ، فإن استطاعَ أنْ لا يقومَ حتى يَغْرِسَهَا فلْيَغْرِسْهَا» ويروي لي أيضاً عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليهم السّلام) قوله الشهير: «فوْتُ الفرصةِ غصّة» الى غير ذلك من الدروس التربويّة ونحن في ظروفٍ قاسية مضنكة، لا تُصدّق إنْ تكلّمنا عن بعضها اليوم.
ويجانبُ الصوابَ مَن يحسب أنّ الرجل إذا دخل الخمسين من العمر أو الستّين نضُب عطاؤه واضمحلّ نفعه، ولم يعد له مكاناً في المجتمع! بل أثبتت الدراسات العلميّة أنّ هذه المرحلة من العمر هي “المرحلة الذهبية” في حياة الفرد، ففي هذه الفترة تتراكم خبراتنا وتزداد تجاربنا في الحياة الاجتماعية والعملية، وهى ذروة الإنجاز في شتى مجالات الحياة، والأمر كلّه يعود الى طريقة نظرتنا الى العمر، فهناك فرقٌ بين العمر بمعناه العددي ومعناه النفسي، فثمة أشخاص في الثلاثين من العمر ولكنّنا نحسبهم في السّبعين، وآخرين في السّبعين من العمر ولكنّ مَن يراهم يظنّهم في الأربعين.
وهاهم أقرانُك وتلاميذك يا أستاذي! فمنهم مَن أكمل دراسة الماجستير والدكتوراه، وتبوّأ مناصب عالية في تدريس الأجيال المتعطّشة الى العلم، ومنهم مَن بنى المساجد والحسينيّات ليستقطب الشباب الى معين أهل البيت الأطهار (عليهم السّلام) فيعلّمهم معنى الحياة الجميلة، ومنهم مَن أسّس منتدى علميّاً ليجتذب المبتكرين والمخترعين من الشباب، ومنهم مَن رعى مؤسّسة خيريّة تُعين اليتامى والأرامل والمساكين، ومنهم مَن استغلّ أجواء الحريّة التي نعيشها فأَسالَ مِدادَ يَراعِهِ خادماً قضايا المظلومين والمستضعفين، الى غير ذلك ممّا لا يسع المجال لحصره في مثل هذه العجالة.