حكمت البخاتي …
كان مصطلح العلماني مصطلحا كنسيا تستعمله الكنيسة في العصور الوسطى في تصنيف العاملين لديها من الموظفين الاداريين الذين تناط بهم مسؤولية ادارة الاعمال الحسابية واعمال الاراضي، وهي أعمال لا تمت بصلة الى اعمال ووظائف رجال الدين أو السلك الكهنوتي، مما يجعل الفرد العلماني في قبالة الرجل الديني الكهنوتي في تعريفه الكنسي.
ومصدر هذا التعريف في اليونانية التي تستخدمها الكنيسة اشتقاقا من “Iaos” الشعب، والعلماني هو الفرد من الشعب الذي ليس له أي سلطة تميزه عن الاخرين، بينما يتمتع الفرد الكهنوتي بالسلطة الدينية.
لم يكن مصطلح العلمانية معروفا او مستخدما قبل القرن الثامن عشر الميلادي رغم أن فكرتها صيغت في القرن السابع عشر الميلادي بواسطة سبينوزا الذي أعاد الدولة الى القوانين الطبيعية في العدل والحرية وانها كيان متطور بشكل طبيعي، وهو ما يفرز اختلافها عن الدين الذي هو شرائع ثابتة وكان أول من استخدم مصطلح العلمانية هو الكاتب البريطاني جوج هوليوك في العام 1851م ولم يكن هو من ابتكرها بل ان أفكارها كانت تغزو إوربا منذ القرن الرابع عشر الميلادي، وبدأت على يد رجال لاهوت مسيحيين.
فقد دعا مارسيل البدواني في هذا القرن وعلى خلفية الصراع بين بابوات روما وبابوات جنوا في فرنسا الى الفصل بين السلطتين السياسية والدينية أو الزمنية والروحية وفق التسمية المسيحية، مؤكدا ومستخدما لفظ العلمانية بانها ليست ضد الدين بل هي مستقلة عنه، ثم حدث هذا التداخل بين العلماني المصطلح الذي كان سائدا في الاستعمال الكنسي والمشتق من الوظيفة غير الدينية في الكنيسة وفكرة أو مفهوم العلمانية لاحقا، فصار مفهوم العلماني مشتقا من مصطلح العلمانية.
واما في الحضارة الاسلامية فان من يمارس تلك المهنة الإدارية والكتابية في دواوين الدولة العباسية يطلق عليه اسم الكاتب، ومثلما حدث تحول في استعمالات ودلالات مصطلح الكاتب في الحضارة الاسلامية باتجاه من كان اختصاصه الكتابة وليس الادارة، فانه حدث تحول في استعمال مصطلح العلماني الذي كان يدير الاعمال غير الدينية في دوائر واملاك الكنيسة فصار في قبالة الديني وليس فقط في قبالة الرجل الديني – الكهنوتي، أي تخطى التعريف الجانب الوظيفي الى الجانب القيمي المعرفي والسياسي بعد ان تم دمجه واشتقاقه من مصطلح العلمانية.
وهنا تحول في المعنى من الاداري الى السياسي وفي الاشتقاق من الشعب او الفرد من الشعب الى الاشتقاق من العالم الذي هو لدينا بالمعنى الاسلامي الدنيا وبالمعنى المسيحي الزمني وهو مشتق من الزمان الذي يشير الى زمان العالم الدنيوي في العقل الاغريقي .
وكانت الكنيسة في أول أمرها قبل الالف الميلادي الاول تفصل بين السلطتين السياسية والدينية أو كما تعبر عنهما بالسلطتين الزمنية – السياسية/والروحية – الدينية استنادا الى ما جاء في انجيل متي من قول المسيح ” أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله ” وقريبا منه ما جاء في انجيل يوحنا “ان مملكتي ليست من هذا العالم” .ويبدو ان الكنيسة كانت تسعى الى ذلك النوع من المهادنة الذي يكفل بقاءها بعيدا عن تحرشات السلطة السياسية، ثم نبهت أتباعها الى الايمان بأن السلطة والملك قدر من الله ولا يجوز معارضته، وكان مستند الكنيسة في ذلك هو ماورد في رسالة بولس الى الرومانيين “لا سلطان إلّا من الله” وفيه تم تبرير الملكية المطلقة بانها متحدرة من الحق الالهي وفق الكاتب والاسقف المسيحي الفرنسي بوسويه.
وقد مهد هذا القول الكنسي الى التعاون بين الكنيسة وبين السلطة السياسية في الالف الميلادي الاول، وكان من نتائجه أنه سمح للكنيسة ببدء هيمنتها على الضمير الفردي أو الاعتقاد الديني الفردي وقد وجدت الكنيسة مبرر هذه الهيمنة الدينية الى ستتحول الى هيمنة سياسية بتأويل نص في انجيل لوقا، ولعل المسيح لم يقصد في هذا النص ما ذهبت اليه الكنيسة اذ يقول المسيح ” فقال للغلام: اخرج الى الطرقات وماحول السياجات واضطر الناس الى الدخول حتى يمتلئ بيتي”، وكان القديس أوغسطينوس يفهم هذه العبارة بهذا المضمون “أجبرهم على الدخول” الى المسيحية، بل أن أوغسطينوس المؤسس الثاني للمسيحية بعد بولس يبرر اضطهاد الوثنيين – الكفار، فهو يقول في رسالته بتاريخ 408م ” عليكم ان لا تنظروا الى القسر ذاته بل الى نوعية الشيء الذي جرى القسر من أجله ” ثم يقول في رسالة أخرى “هناك الاضطهاد الظالم الذي يمارسه الكفار على كنيسة المسيح كما أن هناك اضطهادا عادلا وهو الذي تمارسه كنيسة المسيح على الكفار فالكنيسة تضطهد بدافع المحبة أما الكفار فبدافع الوحشية”.
لقد انتقلت الكنيسة في هذه النقطة من السلطة على الروح الى السلطة على الجسد، فالاضطهاد العادل وفق تسمية الكنيسة يتناول الجسد في عمله وادواته، وكان تعذيب الوثنيين والهراطقة من المسيحين جسديا هو ترميز لهذا التحول في السلطة الكنسية من الروح الى الجسد.
لقد أصبح الفرد الاوربي مسؤولا بروحه وجسده أمام الكنيسة المسيحية عن اعتقاده الديني وما يحتويه ضميره الخاص به جدا، ومن هنا أخذت محاكم التفتيش المعنى بمفهومها التفتيش عما يحتويه الضمير الخاص بالإنسان من أفكار ومعتقدات.
لقد دخلت وهي تفتش في خبيئة الروح لتعذب الجسد من أجل صلاح الروح أنه بدافع المحبة وفق أغسطينوس، ولعل الجسد كان منذ البداية يشكل أزمة وجودية بالنسبة للمسيحية، فالمسيحية التي أسس لها بولس وبتأثير من الرواقية الصوفية التي كانت شائعة ومنتشرة في طرسوس مدينة بولس وبيئته الثقافية الاولى كانت تحتقر الجسد وتؤمن كأي صوفية اخرى بأن تجاوزه وسحق رغباته واهوائه طريقا الى نجاة الروح وخلاصها، وهو ما جعل ذلك الازدراء للجسد المسيحي والاضطهاد للجسد الوثني والهرطوقي خاصية الكنيسة المسيحية، بل ان جسد المسيح الذي تعرض للآلام وفكرة الفداء المتعلقة بآلام جسد المسيح من أجل خلاص العالم تعبير ضمني عن الرؤية الصوفية للكنيسة المسيحية للجسد البشري الذي ينتمي الى الزمني او يقارب انتمائه اليه مسيحيا.
ولم تكتفي الكنيسة بممارسة السلطة الروحية على الجسد البشري بل سعت الى فرض سلطتها على الجسد السياسي للدولة نتيجة التضامن والتعالق بين الجسدي والزمني هذا من ناحية، ومن ناحية اخرى فإن الكنيسة أصابتها الخشية من هيمنة السلطة الزمنية والملوك والاباطرة عليها من خلال تدخلهم في شؤون الكنيسة وقيامهم احيانا بتعيين القساوسة والبابوات لاسيما مع النظرة المسيحية بان الملوك شخصيات شبه دينية وأن ملكهم قد جاء بقرار من الله وفق رسالة بولس، وان لهم الحق الالهي في الحكم وهو ما أرسته الكنيسة في الالفية الاولى، ثم أصبحت بالنسبة اليها مشكلة قائمة نتيجة تدخلات هؤلاء الملوك والاباطرة في التنصيبات الكنسية لشغل المواقع والمسؤوليات الدينية في الكنيسة.
وقد أدت تلك التدخلات الى التفكير بإصلاحات كنسية تحافظ على هيبة وسلطة الكنيسة الروحية وتحررها من السلطة الزمنية بحصر سلطتها ورئاستها بيد البابا وأن تكون له السلطة العليا، وان المسائل المتعلقة بالممالك المسيحية يجب أن تدار من جانب الكنيسة وأن “أوربا مسيحية حقا كان يلزم أن تكون تحت حكام مسيحيين” وهو ما أعلنه البابا غريغوار السابع (1073م – 1085م) ويؤكد سعي الكنيسة الى السلطة والهيمنة على الضمير الفردي من خلال تنصير اوربا، أو جعل كل الأوربيين مسيحيين.
وكان بهذا وفق جوزيف شتراير “يستهدف أجزاء من البنية السياسية الاوربية السابقة” في الألفية الميلادية الاولى، وقد توصلت الكنيسة بنزع التنصيبات من قرارات أباطرة وملوك أوربا الى الاستقلال عن السلطة السياسية – الزمنية، ومن ثم فقد ملوك أوربا ذلك البريق الديني المسيحي الذي كانت توفره لهم الكنيسة، وانفردت الكنيسة بهذا البريق الديني وظهرت الدكتاتورية الكنسية في الاستحواذ على الروح الديني الاوربي لتعبره من خلاله الى الجسد السياسي الاوربي.
وكانت ردة الفعل عكسية في تاريخ اوربا تجاه عمل الكنيسة هذا، فقد اثار او أسس المواجهة الفكرية الاوربية مع الكنيسة وظهور المعنى العلماني المستبطن في جوهر العلمانية وهو تحرير الضمير الفردي من أي سلطة دينية تمارس حق التوجيه لهذا الضمير وبطريقة الاكراه على الاخذ والاعتقاد بما تمليه تعاليم طبقة الاكليروس وقوانين الايمان الكنسي، ثم أخذ المنحى السياسي يدب في جوهر المعنى العلماني بضرورة فصل الدين عن السياسة وأنظمة الحكم فيها، وهو معنى العلمانية لضمان عدم العودة الى محاولات الهيمنة والسلطة على الضمير الذي تحول في العلمانية الى صيغة شخصية صرفة متجاوزا تعريفه القديم بالفردي. يقول جون لوك “من أجل الوصول إلى دين صحيح، ينبغي على الدولة أن تتسامح مع جميع أشكال الاعتقاد دينيًا أو فكريًا أو اجتماعيًا، ويجب أن تنشغل في الإدارة العملية وحكم المجتمع فقط، لا أن تُنهك نفسها في فرض هذا الاعتقاد ومنع ذلك التصرف. يجب أن تكون الدولة منفصلة عن الكنيسة، وألا يتدخل أي منهما في شؤون الآخر”.
وهكذا تكون لدينا المعنى العلماني وهو حرية الضمير الشخصي في المعتقد وهو يقارب العقيدة الاسلامية في “لا اكراه في الدين” وعدم وجود طبقة الاكليروس التي تفرض الايمان على الناس ومن أمثلتها هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر التي تعمل في الاراضي السعودية وهي تشكل بدعة وفق مبدأ “لا اكراه في الدين”.
ثم لدينا معنى العلمانية في فصل الدين عن الدولة لكن هناك تداخلا علائقيا بين المعنيين، وفي مقاربة تاريخية فإن السلطة منظومة شائكة ومعقدة من التداخلات البشرية الرغبوية والمزاجية والمصالحية والفكرية، وتتعقد على الصعيد العملي في علاقتها بالآخر لاسيما وان الدين ظل يشكل عنصرا أساسيا في العلاقة بالآخر بعد اعلان الديانة المسيحية ديانة رسمية للدولة الرومانية في القرن الرابع الميلادي، واعلان الدولة العربية ذات الديانة الرسمية الاسلامية في القرن الثامن الميلادي، وبهذا ظل الدين يشكل عنصرا حاسما ومؤثرا في السياسة والسلطة في التاريخ البشري، ولازال يمتلك حجما من هذا التأثير المهم في هذا العصر العلماني بعد صعود قوى الاسلام السياسي في المنطقة، وصعود اليمينية المسيحية الاميركية التي وقفت الى جانب اسرائيل في عملية تهويد القدس والاعتراف بها عاصمة تاريخية لإسرائيل وبدوافع دينية – مسيحية تؤمن بعقيدة الشعب المختار وعودة المسيح الثانية المرهونة بعودة اليهود الى فلسطين في العقيدة البروتستانتية لدى الفرق المسيحية الاصولية الاميركية وهو ما يؤدي الى تعقيد اكبر في علاقة الدين بالسلطة وتداخله الذي لازال مستمرا في السياسة في هذا العصر العلماني بامتياز .
Post Views: 3٬060