طاقتنا النقدية

0
2341


د.كريم شغيدل ..

نحن العرقيين- إن صح التعبير- شعب نقدي، النقد أو الانتقاد عندنا عادة، ننتقد من يرتدي بذلة في الصيف، ومن يرتدي معطفاً بالشتاء، ومن يحمل مظلة أو يرتدي قبعة ليتقي الحر أو المطر، وننتقد من يحمل كتاباً أو حقيبة، ومن يتحدث عن الأخلاق والمثل مثلما ننتقد من يتحدث عن العلم أو يقيس الأمور على وفق منطقها، نموت من البكاء مع الباكين ثم ننتقد طرق بكائهم واحداً تلو الآخر، ونموت من الضحك مع السفهاء ثم ننتقد سخريتهم، ننتقد كل الظواهر القبيحة، لا بأس بذلك، شريطة ألا نمارسها أو نكون جزءاً منها، ولا تسلم من ألسنتنا الظواهر الحسنة، ففي الوقت الذي نستحسنها قليلاً نتهم أصحابها بالغرور والادعاء والتكبر والتصنع وغير ذلك، ما من عراقي يتحدث عن شخص منزعج منه حتى قدم ما يرتديه على ما يصفه به، فيقال: جاء لابساً دشداشة، أو جاء بقميصه الأبيض أو الأزرق أو بسترته السوداء أو بقبعته أو بنعله، أو جاء مسرحاً شعره أو لم يمشط شعره أو بكفشته البيضاء، فلان ملتزم وكفوء ونزيه لكنه متزمت أو متكبر، فلان أخلاقه عالية لكنه قافل، فلان شاعر جيد لكنه اجتماعي بيتوتي.

99 بالمئة من الشعب العراقي يعزو ما نعيشه اليوم من تردٍ خدمي للفساد، ومفردة الفساد نسمعها في اليوم الواحد مئات المرات، يقولها العاطلون عن العمل، ويقولها المحرومون من أبسط معايير العيش، والمهضومة حقوقهم، والمتجاوز عليهم، والمعطلة معاملاتهم في شتى دوائر الدولة ومؤسساتها، ولهؤلاء الحق في الشكوى من الفساد المستشري، لكننا نسمعها بملء الفم من أشخاص هم أمثلة في الفساد، موظفين ومنتسبي أجهزة أمنية ورجال أعمال ومسؤولين ومحللين سياسيين وإعلاميين ومثقفين وساسة وقادة رأي وناشطين مدنيين ورجال دين من مختلف الفئات والطوائف، وجلهم يعتاشون على الفساد، بل هم الفساد نفسه، فنضحك في سرنا على من نعرفه منهم.

الفساد طبقات وأصناف وأنماط، فالطبقات العليا مكشوفة للقاصي والداني، وهم السبب الأول في خلق الطبقات الدنيا، فحين جاء المسلمون بغنائم الفرس بضمنها حاجيات قصر كسرى في حرب القادسية، قال الخليفة عمر بن الخطاب لعلي بن أبي طالب متعجباً: لم يسرقوا شيئاً، فقال علي: لقد عففت فعفوا، ولو أترعت لأترعوا، وبعد أكثر من ألف عام يأتي كارل ماركس ليقول: الشعوب تعكس أخلاق الحكومات، نعم فرأس السلطة يوجه بقية الجسد، والفساد منذ أيام الحصار السوداء أصبح ظاهرة، بعد أن أصبح راتب الموظف لا يساوي طبقة بيض، والدكتاتور يبني قصوراً، وكان المواطن على الأغلب يتعاطف مع الموظف المسكين، لكن أن يصبح عادة وتصبح الرشوة رسماً، وأن تستغرق معاملة بسيطة ثلاث سنوات فهذا هو الخراب، لا ننزه أحداً ولا نتهم أحداً بعينه، لكن علينا أن نستثمر طاقة النقد التي نمتلكها لبناء شخصيتنا ونراجع أنفسنا، ونحدد موقعنا بدقة على خريطة الفساد قبل أن نتكلم عنه.

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here