صناعة الدولة العراقيَّة

0
1976

علي حسن الفواز ….
تبقى اللحظةُ السياسية للدولة العراقية الجديدة فارقةً في مسارها التاريخي والوجودي، مثلما تبقى مفتوحة على فضاء من الأسئلة، إذ البحث عن هوية هذه الدولة، وعن برامجها ومشاريعها، وعن سياساتها وستراتيجياتها، وعن قدرتها على (صناعة دولة) واقعية، وبأطر حمائية وقانونية، وبطاقة استيعابية حقيقية وعادلة للمكونات العراقية، وبرهانٍ عقلاني على نجاح ديمقراطيتها، ومدنيتها وكفالتها الانسانية والمواطنية لمفهوم التنوع والتعدد في الاجتماع العراقي..
هذه الاسئلة وغيرها قد يُثيرها المواطن البسيط، والمواطن النخبوي في آنٍ معاً، إذ تكشف في جوهرها عن حجم التحديات والتحولات التي تواجهها الدولة العراقية الجديدة، وعن طبيعة الاخطار الواقعية التي تعوّق مسارها، وربما تكشف -ايضا- عن الشك بقدرة الطيف السياسي الجديد على النهوض المهني والقانوني والاداري/ المؤسسي بفاعلية مشروعية الدولة، وبالقدرة على انجاح برامجها، والحد من مظاهر فشلها في معالجة كثيرٍ من الملفات الستراتيجية الكبرى.
هذا الاستهلال لايعني سوى التأشير على واقع دولتنا المأزوم، وعلى تضخّم المشكلات التي تعانيها، وعلى ضعف ادائها، ورثاثة عمل مؤسساتها، وفي اغلب القطاعات، ولولا وجود ثروة النفط، لكان حال العراق يُرثى له، فنحن ومع وجود هذه الثروة الكبيرة نعاني من مستويات متدنية من التنمية، ومن التطور، ومن تحسّن مُنظّم وعادل بدخل المواطن العراقي، ومن معالجات مشكلات عميقة في التعليم والصحة والخدمات والاسكان، مقابل تضخم البطالة واستشراء العشوائيات الاقتصادية والسياسية والتنموية، وهو ما يجعل الموازنات الاقتصادية وكأنّها برامج سنوية لتغطية رواتب البيئة الوظيفية الحكومية المتضخّمة والمترهّلة جدا، ولخدمات تحتاج الى كثير من المراجعة والترشيق.
ضعف الاداء الاستثماري هو واحد من أكثر تحديات دعم واقعية الدولة، فـ (دولة الرواتب) ستجد نفسها في مأزق كبير مع أيِّ تدهور لاسعار النفط، أو حتى لتضخم غير منضبط للفساد، والذي بات واقعا مرعبا لانتاج مزيد من أوهام التخيّل الدولتي، إذ يجرّنا هذا التخيّل الى متاهات، والى مستويات من الفشل في تهريب الثروة الوطنية، او تعويمها في مشاريع غير ستراتيجية، وفي معالجتها لحاجات الناس المتنامية في الخدمات العامة، وفي دعم الصناعة الوطنية، وفي دعم مشاريع الاشباع الزراعي الوطني، وفي مجالات التنمية والصحة الوقائية والسريرية، فالعراق تحوّل الى أكبر مورّد للمرضى الى دول الجوار، والى الهند، وهذا التوريد غير المسؤول يعكس ترديا حقيقيا في التعليم الصحي، وفي برامج النظام الصحي العراقي ذي التاريخ المعروف بعلميته ومهنيته وبرموزه وبخدماته المعروفة عالميا..
السياسة والهرب الى الدولة

الحديث عن (صناعة الدولة) يأخذ الكثيرين مباشرة الى التصوّر السياسي، والى نوع من التداول الذي يحصر فهم الدولة في سياق ذلك التصور، مع اغفالٍ غير واعٍ لما هو اجتماعي اقتصادي وثقافي وتعليمي وتنموي في سياق تنفيذ برامج هذه الصناعة المعقدة.

هذا التداول تحول -للاسف- الى سياق عمل، والى اطار يحكم عمل عديد المؤسسات والسياسيين، بعيدا عن تغذية الوعي بمسؤولية التخطيط لبناء دولة حديثة، دولة لها سياساتها وبرامجها، وعلاقاتها الدولية، ولها مشروعيتها، ولها أطرها وسياقات عملها المحكومة بالزمن والمصالح وبقيم الحداثة، ولها اجراءاتها الفاعلة لمواجهة ازمات الفساد والفشل والتعطيل، وغياب القوانين الحاكمة في الشارع وفي العمل المؤسساتي.
إنّ التأكيد على أهمية الوعي النقدي، هو العتبة التي ينبغي أن تكون منطلقا لاجراءات واقعية، وكافلة لفاعليات التحول باتجاه المشروعية الدولتية، لأنّ التغافل عن مايجري من فساد ومن عشوائيات، ومن غياب للتخطيط والتنظيم والتمكين، ومن تعويمٍ لصناعة مؤسسة الدولة سيعني التغافل عن ادراك اهمية (صناعة الدولة) وصناعة الحكم الرشيد كما تقول بعض الادبيات، وهي من الامور التي تحتاج الى سياسات واضحة، والى قوانين كافلة ورادعة، والى اهتمام حقيقي بالبحث العلمي والثقافي، وايجاد فضاء عملياتي لنشوء المؤسسات التي تُعنى بهذه الاهتمامات، لأن التنمية الثقافية والبشرية والتعليمية تعني بالمقابل ترصينا اجرائيا للتنمية الامنية، وبصياغة عقد اجتماعي وثقافي يعزز ثقة المواطن بالدولة، ويعزز ارتباط السياسي بمسؤولياته.
هذا التعزيز سيكون هو القوة الاخلاقية والبنائية التي نحتاجها في مواجهة تحديات المستقبل، وفي تطوير حلقات البناء الداخلي للدولة، على مستوى مواجهة تحديات الامن الاجتماعي، والامن القانوني، وللقبول بالآخر، فضلا عن دوره في معالجة البطالة من خلال العمل على اعادة النظر بالعمل الاستيرادي والحد من عشوائيته، وباتجاه دعم القطاع الخاص ودعم السلعة العراقية في التداول وفي الحماية، وفي استيعاب جيوش العاطلين عن العمل، فضلا عن مستوى مواجهة ظاهرة الفساد، وهي ظاهرة مُهدِدة للوجود، ولأسس التعايش، ولقيم العدل الاجتماعي والمساواة، ولحماية ثروة البلد من الهدر، ومن الفشل في تنفيذ البرامج والمشاريع الطموحة، والتي مازال كثير منها مهملا وغير ناجز بسبب سوء الادارة والتخطيط والفشل والعشوائية في اختيار وتنفيذ العقود من الشركات ذات الاختصاصات والتاريخ والمشروعية المعروفة..

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here