ستار كاووش …
لم يكن التقارب الذي حدث بيننا محض مصادفة، بل جاء بخطوات خططنا لها مع الوقت، فبعد عدة لقاءات بسيطة هنا وهناك، إتفقنا علـى قضاء يوم كامل معاً، فركبتُ القطار من مدينتي هوخفين فيما إنطلقت أليس من مدينتها دراختن لنلتقي قرب محطة قطار مدينة آسين، وهناك توارينا بين زحام الناس حتى وصلنا سوق المدينة المكتظ بالباعة والفلاحين الذين يعرضون منتوجاتهم بطرق جميلة تناسب عطلة نهاية الأسبوع المزدحمة، لنتوقف أمام كشك يبيع وجبات خفيفة للأكلات البحرية، وطلبنا طبقين من سمك الهارينغ الذي يعتبر من اكثر الأكلات شعبية في هولندا، ثم أكملنا طريقنا بين شوارع وأزقة المدينة القديمة، لينتهي بنا المطاف أخيراً أمام واجهة مقهى دي يونغ المحاذي لمتحف درينته، وهناك إخترنا طاولة إنتصبت في زاوية تطل على نافذة واسعة، إخترقتها أشعة الشمس من الجانب وأحالتها الى واحدة من لوحات إدوارد هوبر المفعمة بالسكينة.
مضت ساعة، ساعتان، ثلاث ساعات، ونحن نجدد الطلبات حتى خيل اليَّ بأننا سنبقى هكذا حتى نهاية المساء، بيد إننا في الحقيقة بقينا حتى هذه اللحظة التي أكتب فيها الآن، ونحن نجدد الإنسجام والألفة والمحبة، وقد جمعتنا الكثير من إفتتاحات المعارض وعروض الأفلام والمسرحيات والمقاهي ونشاطات مختلفة لا حصر لها.
كان الوقت يمضي، والزهرة التي بداخلنا تكبر وتنثر عطرها علينا وعلى كل من يعرفنا، حتى جاءت لحظة ذهابنا لإفتتاح معرض (ريمبرانت في شبابه)، وعند عودتنا من المعرض قررنا أن نعيش سوية، وهكذا جمعنا بيت واحد عشنا فيه عدة سنوات كصديق وصديقة وبطريقة (العيش معاً) المعروفة في الثقافة الهولندية.
وذات مرة، وفيما نحن ذاهبان الى أحد المعارض، مررنا بالمصادفة من أمام مبنى بلدية المدينة، وهناك توقفت الخطوات بطريقة عفوية ونظرنا الى بعضنا بعد أن علت وجهينا إبتسامة خفيفة، لندير رأسينا بوقت واحد نحو البلدية، وهكذا إتضح الموقف بدون كلام، فغيرنا إتجاه المشي وسحبنا خطواتنا بسرعة وإجتزنا الباب الدَوّار للبلدية، وهناك قدمنا طلباً رسمياً للزواج، لكنهم طلبوا منا شاهدي زواج، فلم يكن من أليس سوى الإتصال بأمها وأخوها بن، اللّذان حضرا بسرعة، وأثناء مجيئه إلينا إشترى بن باقة زهور من الطريق وقدمها لنا بهذه المناسبة. وقعنا على الأوراق ليثبت إسمينا في سجلات بلدية المدينة، وهكذا انتهت مراسيم الزواج خلال بضع دقائق، لنعود بعدها لذات البيت الذي جمعنا سنوات عديدة.
لم يكن هناك حفل ولا مدعوين، فأصدقائنا نراهم كل يوم تقريباً، أما هذا اليوم فهو لنا، فلنجعله بسيطاً مثل تطلعنا للحياة وواضحاً مثل ذلك الضوء الذي رَبَتَ على طاولتنا في مقهى دي يونغ، لذا قررنا بهذه المناسبة ان نقضي بقية المساء بالذهاب الى السينما لمشاهدة فيلم رومانسي، وهكذا حجزنا بالتلفون تذكرتين لمشاهدة فيلم هولندي بعنوان (شارع القلوب)، وفي الطريق الى السينما مررنا مصادفة بمحاذاة مقبرة المدينة، فتوقفتُ بشكل مسرحي وأسمعتها بطريقة كوميدية مقطعاً من قصيدة الزواج للشاعر غريغوري كورسو التي تقول (هل ينبغي أن أتزوج؟ هل أُذهِلُ جارتي الجميلة ببدلتي المخملية وقلنسوتي الفاوستية؟ لا آخذها الى السينما بل الى المقابر…) وهي مستغرقة بالضحك!! وهكذا قضينا أول ساعة ونصف من زواجنا في صالة السينما، لنكمل بقية المساء في مقهى قريبة.
الحياة بسيطة وهناك العديد من الخيارات، وعلينا أن نختار ما يناسبنا ويناسب نمط حياتنا، ولا نتردد بالقيام بما نؤمن به ونحبه.
لاشيء يأتي متأخراً أبداً، وأجمل يوم في الحياة هو اليوم الذي نعيشه الآن، لكن مهما كانت الفرصة عظيمة، فهي تعتبر ليست ذات أهمية ان لم نمسك بها ونجعلها تتلائم مع طموحاتنا ورؤيتنا الشخصية.
ويبقى الحب أساس كل إرتباط، والانسان أساس كل شيء، لذا لو سنحت الحرية والظروف المناسبة لأي إنسان فعليه أن لا يتردد في خلق قانونه الشخصي ونمط حياته بدون قشور زائفة.
Post Views: 1٬563