حكمت البخاتي
كتب أدونيس قصيدته “مقدمة في تاريخ ملوك الطوائف” في سنة 1971م وفيها فرق بين العصف الجميل والخراب الجميل وبدا فيها خراب الأزمنة العربية ظاهرا ومكللا على خريطة قصيدته، وسر الجمال فيه أي في هذا الخراب أنه قد صار أو هكذا أمّل أدونيس بدأ انتهاء الأزمنة العربية الماضوية، فالماضي في رأيه قد سقط ولكنه أيضا وفي رأيه لم يسقط فقد ظل مقاوما دون أن يمنحه أدونيس صفة المقاومة لأنها شرف الحاضر والمستقبل في الحداثة الثورية غير جدير بها هذا الماضي الذي يختزن أدونيس الثورة بوجهه.
كان في القصيدة أمل أن هذا الخراب سيقود الى انتهاء الماضي هذا الماضي الذي دفن وجه علي باعتباره مثلا أعلى للعدالة والمساواة ورمزا شامخا للحداثة الثورية العربية لا سيما اليسارية.
هذا الماضي وأزمنته التي كان فيها أدونيس يطلب ماءً فيعطى رملا ويطلب شمسا فيعطى كهفا وفيها لا يعرف نفسه هو كعربي أهو سيد أم عبد، أزمنة تبعث على الحيرة والاضطراب لهذا كان حلم أدونيس أن يأتي الخراب فتنقضي تلك الأزمنة وهو إذ يأتي بهذه الصيغة فهو لاشك في رأيه أنه الخراب الجميل، يقول أدونيس
من هناك يرجّ الشرق؟
جاء العصف الجميلُ
ولم يأتِ الخرابُ الجميلُ
صوتٌ شريدٌ…
(كان رأسٌ يهذي يهرّجُ محمولاً ينادي أنا الخليفةُ)،
هاموا حفروا حفرةً لوجهِ عليٍّ
كان طفلاً وكان أبيضَ
أو أسودَ،
يافا أشجارُه وأغانيه ويافا.
تكدّسو، مزّقوا وجهَ عليٍّ
هل كان أدونيس مغالطا لذاته العربية حين تمنى أن يحل الخراب بأزمنة العرب الماضوية؟ أم كان ثائرا يبحث عن التغيير الثوري والجذري في الواقع؟ كما كانت تسمي تلك الطموحات كل الأفكار والحركات التحررية في النصف الثاني من القرن العشرين الميلادي،
نعم كان ثائرا واهما ولعله أيضا كان مغالطا لكنه ترجم شعور اليأس والثورة التي كانت تغلف الذات العربية في تلك الحقبة التي انتمت أيضا الى حقب الماضوية العربية والآن أيقنت هذه الذات باليأس وتخلت عن الثورة، وأخيرا تنبه أدونيس الى مغالطته تلك فقال متأخرا في سنة 2013م : ( الخراب: تلك هي الكلمة الأكثر قدرةً على وصف الحالة الراهنة في العالم العربي. غير أنّه ليس “الخراب الجميل” الذي تمنّيتُه في قصيدة “مقدمة لتاريخ ملوك الطوائف” في سنة 1971 ذلك أنّ هذا الخراب لا يؤسّس لتحرير الإنسان من مختلف العبوديّات، وإنّما يغامر، على العكس، بالتأسيس لعبوديّاتٍ أخرى أشدّ هولاً ) ،
لكن برناند لويس المستشرق الراديكالي في سنة 2005م استعار المعنى وضمنّه الضرورة التاريخية وفق مقولات الديمقراطية الغربية وضخه عبر مقولاته الاستشراقية التقليدية فقال (ان العرب والمسلمين قوم فاسدون مفسدون فوضويون لا يمكن تحضيرهم …. ولذلك فإن الحل السليم للتعامل معهم هو إعادة إحتلالهم وإستعمارهم وتدمير ثقافتهم الدينية وتطبيقاتها الاجتماعية، وفي حال قيام أمريكا بهذا الدور فإن عليها أن تستفيد من التجربة البريطانية والفرنسية في استعمار المنطقة لتجنُّب الأخطاء والمواقف السلبية التي اقترفتها الدولتان إنه من الضروري إعادة تقسيم الأقطار العربية والإسلامية إلى وحدات عشائرية وطائفية،ولا داعي لمراعاة خواطرهم أو التأثر بانفعالاتهم وردود الأفعال عندهم، ويجب أن يكون شعار أمريكا في ذلك إما أن نضعهم تحت سيادتنا أو ندعهم ليدمروا حضارتنا، ولا مانع عند إعادة احتلالهم أن تكون مهمتنا المعلنة هي تدريب شعوب المنطقة على الحياة الديمقراطية، وخلال هذا الاستعمار الجديد لا مانع أن تقدم أمريكا بالضغط على قيادتهم الإسلامية- دون مجاملة ولا لين ولا هوادة- ليخلصوا شعوبهم من المعتقدات الإسلامية الفاسدة، ولذلك يجب تضييق الخناق على هذه الشعوب ومحاصرتها، واستثمار التناقضات العرقية، والعصبيات القبلية والطائفية فيها، قبل أن تغزو أمريكا وأوروبا لتدمر الحضارة فيها) .
وهكذا يبدو تسلل فكرة أو عقيدة الخراب الى الحداثة الاجتماعية والسياسية وارتهانها بالمصالح العليا للأيديولوجيات الفكرية الثورية وكذلك نهجا وأسلوبا أو عقيدة بالمصالح الامبريالية الأميركية، ورغم تناقضات الايديولوجيا بين الثورية والامبريالية لكن انجاز المصالح العليا يتجسد في التماثل في الأساليب والوسائط المنتقاة لهذه الغاية في الخراب والذي يمتثل الجمال في عواقبه في كلا الأيديولوجيتين.
لقد بدا الخراب في تلك الأيديولوجيات الغربية في المنحى والأصول ضرورة تاريخية وذا أهمية أساسية في حركة التاريخ الحديث والمعاصر قد تكون بداياتها الأولى في انتهاك حرمة المقدس التي أسست له بقوة الحداثة الأوربية، ومازالت وأن تلك الحداثة الأوربية قد فاقت في حروبها وأعداد ضحاياها كل حروب ومجازر العالم القديم أو عالم ما قبل الحداثة ولازالت تسعر الحروب في كل بقاع العالم، فالحروب جزء من عقيدتها الامبريالية وموروثها الإغريقي وإرثها اليهودي – المسيحي كما تعبر الحضارة الأوربية دائما عن انتمائها العرقي والثقافي، تقول كارين أرمسترونغ ( كانت الحداثة للبعض محفزة للقوى محررة وساحرة بينما خبرها آخرون قهرية غازية ومدمرة وقد استمر هذا النموذج عندما كانت الحداثة الأوربية تمتد الى أنحاء أخرى من الأرض) وأخيرا تخلص أرمسترونغ كباحثة وشاهدة أوربية الى النتيجة التي تكللت بها الحداثة تقول ( فبرنامج التحديث كان تنويريا … لكنه في الوقت ذاته كان عدوانيا أيضا ) ، وترى أرمسترونغ أن الاعلانات الأولى للعلمانية والالحاد كانت في تشكيلات محاكم التفتيش وآثارها الضارة على الدين والداعية الى اقصائه كأحد أهم شعارات الحداثة الأوربية،وفي تلك المناخات الساخنة في بلورة مفهوم الدين حداثيا وعلمانيا كانت تتأسس العناصر الأولى النفسية والاجتماعية اليهودية للصهيونية وفي المعيارية التاريخية كانت الصهيونية تتأسس وتتشكل في مناخات الحداثة الأوربية كجزء من التحولات الحداثية الخطيرة التي شهدتها أوربا في القرن التاسع عشر الميلادي وكانت تحولا خطيرا على مستوى المفهوم الديني اليهودي للأفكار والعقائد والرموز اليهودية والتوراتية لكنها لم تسع كحركة حداثية وعلمانية الى إجراءات الفصل عمليا عن الدين رغم أنها نظريا أعلنت أنها لا علاقة لها بالدين لكن ذلك قد منحها عمقا أيديولوجيا خطيرا في إيمانها بانتهاك المقدس وفي إيمانها بالضرورة التاريخية بفكرة الخراب التي سيؤول إليها الماضي فقد كانت تمردا على الماضي الديني اليهودي الذي يؤمن بتدخل الإله المباشر بإنجاز الوعد التوراتي المستقر في المخيلة اليهودية واستبداله صهيونيا بتدخل الإنسان اليهودي في صنع وقيام دولته لقد استبدلت الصهيونية بالإله الإنسان وتلك نقطة الارتكاز في الحداثة الأوربية وكان يحذر منها بعض رجال الدين اليهودي ( بأنها تنشر أجنحة الموت السوداء المرعبة على قضيتنا … بقطعها عن مصدر حياتها ذاته وعن نور بهائها )، ولكن الصهيونية بإيمانها بأرض الميعاد وفلسطين هي الوطن المنشود لليهود فإنها تؤكد صميميتها الدينية اليهودية.
ولأن الصهيونية لم تنفصل عن الدين كليا أو عمليا فقد تحولت الى قوة دافعة ومصدرا من مصادر الأصولية اليهودية والدينية التوراتية المتطرفة وفق كارين آرمسترونغ وهو ما يفسر التحالف الفكري والسياسي والحكومي بين فكر اليمين التقليدي الذي يمثله حزب الليكود بزعامة نتنياهو ومجموعات دينية يهودية متطرفة مثل حزب “عظمة يهودية” بزعامة إيتمار بن غفير و حزب “الصهيونية الدينية” بزعامة بتسلئيل سموتريتش،ورغم أنه تحالف هجين بين العلمانيين والدينيين ولكنه تحالف يقوم على أسس من المباديء المشتركة والعقائد المتماثلة في ايديولوجيا نشر الخراب الماثل بالجمال في عواقبه المنتقاة فبالقدر الذي تستند إليه الدينية المتطرفة أو الأصولية اليهودية باعتمادها على النصوص التوراتية التي تبيح القتل والسبي والإبادة للأغيار فإن الصهيونية العلمانية الحداثية تستند الى الضرورة التاريخية في نبذ وبتر الماضي من أجل تأسيس حاضر لا يمت الى الإله غير اليهودي بصلة، ومستقبل يكون فيه المحور هو الإنسان وفي الصهيونية القومية يكون هو الإنسان اليهودي.
وفي جذور تلك الخلفية الفكرية والأيديولوجية للفكر التوراتي المتطرف والفكر الصهيوني العلماني والحداثي نجد التبريرات بل التفسيرات لما يحدث من حرب وقتل وتدمير وإبادة جماعية في غزة تدع اليهودي التوراتي واليهودي الصهيوني لا يستشعر بفداحة الخطيئة والجريمة ويستسيغ أحداثها ووقائعها باعتبارها جزءا من تكوينه الفكري واستعداده النفسي واعتقاده الديني والصهيوني الحداثي بضرورة الخراب الذي يسبق إعادة بناء أمجاد الهيكل”.
Post Views: 714