
أحلام رهك
رغم تعدد النُصب التذكارية التي تُجسّد رمزية المرأة العراقية في بغداد، من “نُصب المرأة الشهيدة” في الكاظمية، الذي يخلّد 1280 شهيدة أعدمن على يد نظام صدام البائد، إلى “نُصب شهرزاد وشهريار” الذي يروي أسطورة الحكاية والصوت النسائي الباقي، و”نُصب كهرمانة” الذي يتماهى مع الحيلة والذكاء، نجد فجوةً صارخة في الذاكرة الجمعية؛ فجوة تتمثل في غياب نصبٍ واحدٍ فقط يُخلّد المرأة السجينة السياسية.
تلك المرأة التي لم تُؤسر فقط في الجدران، بل سُجنت في الجحيم ذاته؛ عُذِّبت، هُدّدت، شُرِّدت، وانتُزعت منها الأنوثة تحت مقصلة السياسة. كانت تقاوم ليس من أجل ذاتها فقط، بل من أجل وطنٍ صُلب، من أجل حريةٍ يُسرق منها نهارًا جهارًا. ومع كل هذا العناء، ظلت صورتها خافتة، لم تنل ما تستحق من التكريم المادي والمعنوي، لا في تمثال ولا حتى في لافتة تُذكر العابرين بتاريخها.
إن وجود نصب للمرأة الشهيدة هو خطوة عظيمة، والنحات عباس غريب أبدع في ترجمة الألم إلى صلابة في نصب المرأة الشهيدة في الكاظمية، لكن، لماذا غُيِّبت السجينة السياسية من هذا السجل البصري؟ هل لأن صبرها لا يُرى؟ أم لأن عذابها لم يُوثّق كما ينبغي؟ أم لأن التاريخ يكتبه المنتصرون، والمنتصر لم يكن يومًا امرأة مقيدة خلف القضبان في زنزانات النظام البائد؟
المرأة السجينة لم تكن رقماً، بل حكاية وطن، وخارطة ألم، وراية صمود. كانت أماً وطفلةً وحبيبةً ومعلمةً ومناضلةً، نُزعت منها الحياة قسرًا لكنها رفضت أن تنكسر. كثيرات منهن أنجبن داخل الزنازين، خرجن بأجساد مهدّمة وأرواحٍ لم تُكسر. أليست تلك كرامة تستحق أن تُجسّد في نصبٍ تذكاري؟ أليس من حق الوطن أن يُبقي سيرتهن حيّة في وجدان الأجيال؟
إن إقامة نصب للسجينة السياسية ليس مجرد ردّ اعتبار؛ إنه فعل أخلاقي، وواجب وطني، ورسالة للأجيال القادمة بأن هذه البلاد لا تنسى من تألم من أجلها، لا تنسى من دفعت ثمن الكرامة من جسدها وروحها.
فلتكن هناك دعوة وطنية، ومبادرة ثقافية، تشترك فيها الدولة والمؤسسات الثقافية ومؤسسة السجناء السياسيين، لإقامة نصب تذكاري للسجينة السياسية العراقية. نصب يُجسّد القيود، لكنه يخلّد الحرية. نصب تكون فيه المرأة منتصبة لا منكسرة، شامخة لا منحنية، تحمل بين يديها مفاتيح الزنزانة، وقصة وطن خرج من ظلام الطغيان.
إننا لا نطلب تمثالاً من حجر، بل ذاكرة من نور.
Post Views: 75