مشروعية الدولة الجديدة وذاكرة الاستبداد القديم

0
2208

علي حسن الفواز …
يمكن أنْ نعدّ مفهوم الدولة موضوعا اشكاليا ومُلتبسا، وباعثا على المساجلة والاختلاف، ليس لأنّه موضعُ تقاطع مابين الاصوليين والليبراليين، أو أنّه خاضعٌ لتوصيفات عمومية أو محدودة، بقدر ما أنّ العجز في فهمه كامنٌ في تأطير هذا المفهوم، وفي تنظيمه وتداوله، على مستوى الحاجة، أو على مستوى بناء الأنموذج القانوني والحقوقي والمؤسساتي للدولة..
هوية هذه الدولة قد تكون مشكلة تأسيسية، ونقدية، فبقدر الحاجة الى أهمية وعي مشكلتها، فإنّ القناعة بوجود تقعيد مدني وحقوقي لها سيكون مدخلا مهما للاتفاق السياسي على توصيف هذه الدولة، وعلى صياغة نُظمها ومؤسساتها وسلطاتها، وبعكسه ستظل (الدولة) اطارا عائما، وبعيدا عن الواقع، وخاضعا الى حاكميات صغيرة عنيفة، لا علاقة لها بالدولة، ولا بعمل مؤسساتها الوطنية والمهنية، فضلا عن ذلك فأنّ تعطيل(صياغة) العقد الوطني والسياسي والتنظمي للدولة يعني تكريس أنموذج(الدولة الفاشلة) العاجزة عن حماية مواطنيها، وغير القادرة على بناء المؤسسات الادارية والاقتصادية والامنية والخدماتية..
من أخطر تحديات بناء الدولة يتعلّق بموضوع(السلطة) ومَنْ يحكم مَنْ؟ وماهي الأسس والمعايير التي تُشرعن وجودها، وتقبل بالتعايش الآمن بين مكوناتها الجماعاتية، بعيدا عن الأدلجة والتطييف، والقومنة، وعن تداول مفهومات استحواذية مثل(الجماعة الأكبر) و(الجماعة الأصغر) وما يتبدى عبرها من تمثيلات اجتماعية وسلطوية، والتي ستنعكس سلبا على الممارسة السياسية، وعلى اجراءات تتعلق بالعدالة والوظائف والثروة وغيرها من أخطار قد تُهدد السلم المدني، وأسس التعايش والقبول بالآخر داخل المجتمع العراقي..
الدولة الوطنية والاستبداد..
تاريخ الدولة العراقية ومنذ عام 1963 ارتبط بذاكرة الاستبداد، والعنف، وبحاكميات خاضعة للأدلجة والعسكرة، وللعنصرية وغيرها من المركزيات، والتي صنعت لنا تاريخا مرعبا للتوحش، وحين نستدرك هذا المعطى في النظر الى المفهوم التداولي ل(الدولة) مابعد عام 2003، فإنّنا نجد أنفسنا أمام صور غائمة لأطروحات تتعلق بما يتعلّق ب(الدولة المدنية) أو(الدولة الطائفية) أو(الدولة الدينية) أو(الدولة العلمانية) وهي مجال بات خاضعا لتجاذبات وصراعات، هو في جوهره تعبير عن الطبيعة الصراعية بين القوى الاجتماعية والسياسية الدينية التي ظهرت في مرحلة مابعد عام 2003، وبين ماتتداوله من مفاهيم..
إنّ الحاجة الى مواجهة استحقاقات الدولة الجديدة تربط بالقبول بحقائق الواقع الجديد، وبكلّ ما يفترضه من تحديات، ومن تعقيدات، والتي تتطلب اولا مواجهة حقيقية لذاكرة الاستبداد، ولكي لا يعود الى واجهة إدارة الدولة، وبأيِّ شكلٍ كان، مثلما يتطلب ثانيا العمل بأطرٍ عملياتية تكفل مواطنية التنوّع والتعدد، وصفات الديمقراطية والحداثة لعمل مؤسساتها، لأنّ أيَّ إجراء تعسفي أو اقصائي فإنّه سيؤدي الى خلخلة التوازنات الوطنية، ويضعنا أمام اعادة(حاكمية المركزة) وأشكالها الاستبدادية، وبكلِّ مايعنيه من عنف اجتماعي وسياسي، ومن تداخلات خارجية، ومن تعطيل للعمل المؤسساتي، وفشل في تأمين علاقة حقيقية بين المواطن والدولة..
الدولة والانتخابات.
لقد كشفت الانتخابات البرلمانية الاخيرة عن خطورة تعطيل صناعة الدولة، وعن طبيعة الصراع السياسي بين الجماعات، ورثاثة الفهم التداولي للديمقراطية، وكيفية تعزيز وظيفة هذه الديمقراطية في بناء الدولة، وفي تعزيز مسارها، وفي خلق الظروف الآمنة للتغيير، وللتداول السلمي للسلطة، فما حدث من تشوهات للعملية الانتخابية، جسدتها الشكوك والطعون الكثيرة بنتائجها، وبإجراءات(المفوضية المستقلة للانتخابات) وضعف تعاطيها مع تقانات الفرز والعد الالكتروني، وهو ما انعكس سلبا على دعم مسار العمل الديمقراطي، وفي مواجهة مظاهر الفساد السياسي والمالي والخدماتي، وفي تجاوز العقد التأسيسية الأولى لمشروع الدولة الوطنية..
إنّ نقد هذه المظاهر يتطلب جملة من الاجراءات، بدءا من نقد سلبيتها، وليس انتهاءً بخيارات تتعلق بضرورة انجاحها عبر انجاح العمل المؤسساتي، على مستوى الانتخابات، أو مستوى الحقوق وحمايتها، أو على مستوى الخدمات، بما فيها الخدمات البلدية والصحية والتعليمية والثقافية، وهي أمور تُشكّل أساسيات في بناء الدولة القوية، وفي حماية المجتمع المتنوع الذي نعيش –للأسف- محنة هوياته المتشظية، وسوء معالجة محنة(ذاكرة الاستبداد) التي تركها النظام السياسي السابق مفتوحة، وغائرة عبر حمولاته الطائفية والقومية والعصابية..
الحديث عن علاقة الدولة بالانتخابات يعني تهيئة الأطر والاسس التي تكفل اقامة ممارسات حقيقية لمصداقيتها، وللثقة بإجراءاتها، وبما يترتّب عليها من نتائج واضحة ومقبولة، لها أهلية صياغة عقد ديمقراطي، وفاعلية مواجهة القوى التي كانت تعيش على(ذاكرة الاستبداد) وتتبنى خطاب العنف والارهاب والتكفير والتطرف خيارا لها.
إنّ النجاح الديمقراطي، هو الفاعلية والممارسة التي تكفل الحق العام للمواطنين، وهي من يُعطي للدولة الجديدة مشروعيتها، ومن يقطع الطريق على قوى الاستبداد، ومن يُعطي لدور الفرد والجماعة فاعليته في سياق بناء مجتمع هذه الدولة، وتعميق الوعي بتوصيفها القانوني- داخليا وخارجيا- وترصين بنائها المؤسسي والتنظيمي وشرعتها في حماية حريات ومصالح مواطنيها…

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here