جسورُ الثقة.. انطلاقُ عمليات الترميم

0
1907

عبد الزهرة محمد الهنداوي ..
ربما، من النادر أنْ نشهد هدوءاً أو علاقات طيبة تمتدُ جسورها بين الحكومات والبرلمانات في أغلب دول العالم التي تحكمها النُظم الديمقراطيَّة، وقد يصلُ الاختلاف في بعض الدول الى حد سحب الثقة وإسقاط الحكومة، عندما تصل الأمور الى طريق مسدودة بين الجانبين، وقطعاً إنَّ مثل هذه التداعيات ستؤثر سلبا في الواقع الحياتي بنحو عام، بل إنَّ شرر النار قد يطال البرلمان نفسه، لا سيما إذا كان للحكومة أنصارٌ بين الأعضاء..
ونحن في العراق اعتدنا على مثل هذه الصراعات بين التشريع والتنفيذ، خلال الدورات السابقة، وغالباً ما تصل ألسِنة هذه الخلافات الى الواقع التنموي والخدماتي، الأمر الذي يتسبب في إرباك المشهد وتوقف المشاريع المهمة والأساسيَّة، وفي نهاية المطاف فإنَّ الخاسر الأكبر هو المواطن من خلال حرمانه من الخدمات،فضلا عن انتشار مظاهر الفساد وشيوع الكثير من الأساليب والثقافات السلبيَّة.
، لأنَّ بيئة الخلافات تساعدُ كثيراً في نمو مثل هذه الطفيليات، وأكاد أجزم أنَّ إيجابيَّة العلاقة بين مجلس النواب والحكومة، لو كانت مثل ما هي عليه اليوم، لكان الواقع على غير ما هو عليه الآن، فما زالت الذاكرة تحتفظُ بالكثير من مشاهد الصراع المرير بين الطرفين، لا سيما في جلسات الاستجوابات العاصفة للوزراء وباقي المسؤولين التنفيذيين، والتي كانت تصل الى حد استخدام “أسلحة” غير تقليديَّة مثل رفع الأصوات والضرب على الطاولات وقذف القناني المليئة بالماء البارد في عز الشتاء!
ولا شك إنَّ علاقة مضطربة مثل هذه ستؤدي الى حدوث شلل تام في مستوى الأداء الحكومي، فكان من نتاج ذلك هشاشة الوضع الأمني، وتوقف عجلة التنمية، وهروب المستثمرين، وباتت الصورة قاتمة، بل مخيفة أمام العالم الخارجي، بلحاظ ما حدث عام 2014 من تداعِ خطير في المسارين الأمني والاقتصادي، فلو كانت العلاقة طيبة بين الطرفين، لتمكنا من تجاوز الأزمة بأقل الخسائر، بيد أنَّ الذي حدث.
وعلى الرغم من هول الكارثة، كان البعض جذلاناً بما يحدث، بل ربما رأى فيه “انتصاراً” يوم كان البلد على حافة الانهيار، فقد أصبحت خزينة الدولة شبه خاوية، والحكومة تمد يداً للداخل وأخرى للخارج، في حالة ربما تشبه الاستجداء لسد متطلبات الإنفاق الهائلة، سواء تلك المتمثلة بتدبير رواتب موظفيها، أو إدامة زخم المعركة ضد الإرهاب، أما التنمية فقد تم تعليق حقيبتها على الرف، ريثما تنجلي غبرة الأزمة، فتوقفت آلاف المشاريع، التي كلفت خزينة الدولة مئات الترليونات من الدنانير، ومن بين تلك المشاريع، مدارس ومستشفيات ومحطات ماء ومجاري وجسور ومجسرات ومرائب ومطارات وكهرباء وصناعة وزراعة واتصالات، وسدود وخزانات.. ناهيكم عن فظاعة ما جرى في الجانب الأمني وتشريد ملايين العراقيين من مناطقهم لتنهال عليهم سياط النزوح والغربة، بعد أنْ دُمرت مدنهم ومساكنهم، وفقدوا الأمل بكل شيء..
نعم، كان درس الخلاف والاختلاف بين مجلس النواب والحكومة قاسياً جداً، ستبقى آثاره شاخصةً في الجسد العراقي الى حين، وعلينا الاستفادة من هذا الدرس عبر استثماره إيجابياً، من خلال بناء علاقة إيجابيَّة سليمة بين الحكومة والبرلمان، وواضحٌ جداً إنَّ طرفي المعادلة أدركا الأمر، فقد وضعا لهذه العلاقة مساراً مختلفاً، يقومُ على أساس تجسير الفجوة بينهما، والتفاعل الإيجابي في التعامل مع القضايا والملفات، سواء تلك التي تراكمت من الحقب السابقة، أو التي تظهر الآن..
ومن المؤكد إنَّ العلاقة التي نتحدث عنها، لن تكون مثاليَّة في بيئة سياسيَّة مثل بيئة العراق التي ما زالت تعاني الكثير من المشكلات، ولكن أنْ تكون العلاقة إيجابيَّة في حدها المتوسط أو الأدنى، أفضل بكثيرٍ من علاقة متوترة ذات إيقاع غير “مدوزن”، وقد بدأنا نتلمس نتائج إيجابيَّة هذه العلاقة بين السلطتين التشريعيَّة والتنفيذيَّة، من خلال التنسيق عالي المستوى على المستوى الخارجي، متمثلاً بوحدة الموقف والخطاب، ما أدى الى تغيير الكثير من المواقف الدوليَّة إيجاباً لصالح العراق، وعلى المستوى الداخلي، في ما يتعلق بمعالجة الملفات العالقة ووضع رؤية مقبولة لتصحيح المسارات، ويبدو ذلك واضحاً من خلال الجولات الميدانية في جميع المحافظات التي يقوم بها الرؤساء الثلاثة أو من يمثلهم، وكذلك العمل على معالجة مشكلة المشاريع المتوقفة، لا سيما ذات الصبغة الخدميَّة منها، عبر الاجتماعات المشتركة بين اللجان النيابية والمؤسسات الحكوميَّة، وفي جلسة واحدة مشتركة بين الحكومة والبرلمان، تمكن الطرفان من اتخاذ قرار يقضي بإكمال 350 مدرسة من المدارس المتلكئة وإنجازها خلال العام الحالي، فضلاً عن جلسات ولقاءات أخرى كثيرة هي الأخرى ستنتج لنا حلولاً ومعالجات لقضايا وملفات عالقة كثيرة.
وعلى هذا الأساس، يمكن القول إنَّ مجلس النواب بات يمارس دوره الرقابي والتشريعي بنحوٍ سليمٍ وصحيحٍ، من دون أنْ ينسى أو يغفل أهمية دعم الحكومة وتمكينها من أداء مهامها بصورة صحيحة، بعيداً عن استخدام العصي المعرقلة للعجلة التنفيذيَّة، وعلى الحكومة أنْ تستثمرَ هذه البيئة الإيجابيَّة، لتمضي باتجاه توفير الخدمات للمواطنين وإظهار الوجه الحسن للعراق وطنياً ودولياً، وتبدو البدايات مشجعة، بدءاً من تقطيع أوصال المنطقة الخضراء، وإزاحة كابوس الكتل الكونكريتيَّة التي كانت تجثم على صدر بغداد الجميلة. وسنبقى ننتظر الكثير..

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here