حكمت البخاتي ….
يشكل عالم الجنوب مركزا حيويا ومؤثرا في تاريخ العالم وهو يمثل الجغرافيا الفاعلة والمحركة دائما في التاريخ بل الجغرافيا الصانعة للتاريخ وليس التاريخ القديم في مفتتحه بعد ظهور المدينة وحركة أو عصر التدوين الا تاريخ جغرافيا الجنوب الذي كان مهد الحضارات في سومر وأكد في جنوب العراق وحضارة مصر في الصعيد من جنوب مصر ، لقد شغلت الحضارات الأولى في العالم القديم جغرافيا الجنوب في هذا العالم منذ منتصف الألف الرابع قبل الميلاد وهو تاريخ نشوء الحضارة العراقية القديمة ومنتصف الألف الثالث قبل الميلاد وهو تاريخ نشوء الحضارة المصرية فكانت تمثل حضارات الجنوب ، وكان هناك تقويم فلكي هندي قديم مشبع بالفكرة الروحانية حول انتقالات الحضارات بين الشمال والجنوب في الأرض وتعد المعايير الزمنية في هذا التقويم الفلكي بآلاف السنين ويبدو أن الالفية التي انتقلت فيها الحضارة الى شمال الأرض وافقت ظهور دولة الإغريق في القرن الثامن أو التاسع قبل الميلاد ثم أعقبتها الحضارة الرومانية لتبدأ منذ تلك اللحظة محاولات الشمال للاستيلاء على العالم وتمييز الحدود بين الشمال والجنوب وكان تاريخيا اكبر تصد للشمال في انتشار نفوذه هو موقع وقوة الحضارة العربية الاسلامية التي مثلت الجنوب وفق أو استنتاجا عن مؤشر خط برنت .
ويعد خط برنت خطا فاصلا بين دول الشمال ودول الجنوب وهو خط وهمي وضعته القوى الاقتصادية الدولية الكبرى والتي تنتمي الى دول الشمال لغرض تحديده وتمييزها عن دول الجنوب ، وتحول الى مفهوم تمييزي وعنصري على المستوى الدولي العام وموضوع التمييز العنصري فيه هو دول وشعوب بجملتها وليس فئات أو أفراد محددين أثنيا أو عرقيا .
وقد ظهر هذا المصطلح شمال / جنوب في سبعينيات القرن العشرين وصدر كتاب يحمل عنوان ( برنامج من أجل البقاء ) وضعه المستشار الالماني الأسبق فيلي برنت في العام 1980 م واعتمد الفصل بين الشمال والجنوب معايير التطور والتنمية على المستويين المادي والمعنوي وهكذا انقسم العالم في حينها بشكل رسمي شمال / جنوب ، بل استخدم في أدبيات ذلك العصر بل وحتى الآن مسمى عالم الشمال وعالم الجنوب فلم يعد العالم واحدا منذ تلك اللحظة ولو على المستوى التوصيفي وتراجع مصطلح العالم الحديث ليقتصر على اوربا حصرا او على عالم الشمال فصار الجنوب خارج التاريخ واستقر على هامشه وهو ما أفصحت عنه عقيدة العولمة بتقسيم العالم الى متن يقتصر على الغرب واميركا / عالم الشمال وهامش تنخرط فيه كل دول العالم الآخر / عالم الجنوب .
وكان يتم تقسيم العالم وفق هذه الثنائية التمييزية والعنصرية بشكل ستراتيجي ودائم ومعيار التمييزية هو الغنى والثروة وتمييزها عن الفقر والحرمان فقد انضمت الى عالم الشمال في هذا التقسيم ووفق القائمين عليه دول آسيوية امتلكت المال والصناعة ومنها اليابان وتركيا وروسيا واستراليا بل حتى اسرائيل لتؤكد عدم انتمائها الى العالم المحيط بها ويكون التقسيم شمال / جنوب وفق هذا المعيار قد انتقل من الشرط المكاني الى الشرط الصناعي والاقتصادي وارتسمت بذلك ما عرف بخصائص الشمال والجنوب وهي خصائص على درجة عالية من التباين في التنمية البشرية والصناعية .
فدول الشمال تمتلك المال والصناعة والسلاح وحكم القانون بينما تشكو دول الجنوب من تخلف الصناعة وتخلف التفكير الاقتصادي والسياسي لدى الدول الغنية منها والكثير منها يعاني الفقر وانتشار السلاح وافتقاد قوة القانون مما يعيق أكثر من حركة التنمية والتطوير وتخطط دول الشمال في السياسات المتعلقة بالتنمية السكانية وتحديد النسل حتى صار مؤشرا على انخفاض معدلات نمو السكان لكن دول الجنوب تفتقر الى هذه السياسات التي جعلت الزيادة في النسل يشكل عبئا اقتصاديا وتنمويا على كاهل انظمتها الادارية والاقتصادية وهو ما يؤثر على معدلات الاعمار بانخفاضها وأحيانا بشكل حاد بينما نشهد ارتفاعا في مثيلاتها في دول الشمال وهي واحدة من شروط التنمية البشرية التي تشمل ارتفاع معدلاتها في هذه الدول على تفاصيل دقيقة في حياة الفرد من العمر الى العيش الى التعليم الى الخدمات وترتبط معدلات التنمية هذه بتطور معدلات الانتاج الصناعي وزيادة مستوى النمو الاقتصادي ويظل الفضاء العام الذي تتحرك فيه آليات – عوامل التنمية البشرية هو الفضاء الديمقراطي الذي تنتمي اليه هذه الدول في علاقاتها بشعوبها بينما نجد انخفاض معدلات التنمية البشرية في دول الجنوب ترتبط في جوانب مهمة منها بافتقاد القيم الديمقراطية وسيادة قيم الدكتاتورية واحتكار ثروات وامكانيات هذه الدول لصالح مجموعات محددة عرقيا أو حزبيا او فئويا ، وقد أدت تلك السياسات الى انتشار ظاهرة أو مشكلة الفقر واحيانا مجاعات تحولت الى إبادات بشرية في عدد من هذه الدول وكانت تنشأ في قبالة ذلك طبقة اقتصادية طفيلية أثرت بطرق غير مشروعة وهي محسوبة في أغلبها أو كلها على تلك النظم الدكتاتورية ذات الطبيعة العسكرية أو الصبغة البوليسية وقد نشأت وبالترادف مع سياسات الاضطهاد التي ألفتها تلك الأنظمة وحالات الحرمان التي ألفتها المجتمعات المحكومة بهذه الأنظمة ؛ أن انتشرت ظاهرة الأمية التقليدية وأخطر منها ظاهرة الأمية الثقافية نتيجة تراجع المراكز والمعاهد العلمية والثقافية فكانت بؤرا صالحة لتفريخ الحركات الأصولية والسلوكيات الارهابية وقد غذتها مشاعر الكراهية بين الشمال والجنوب والمتولدة في بعض اسبابها عن الرؤى الازدرائية تجاه الجنوب المتخلف والأصولي كما يستقر في مخيال مجتمعات دول الشمال اضافة الى المستقر في مخيال مجتمعات دول الجنوب حول دور دول الشمال / أوربا / في نهب خيرات الشعوب واستغلال مواردها الأولية لصالح الشمال على حساب الجنوب وهكذا نجد تطورا خطيرا في تاريخية واشكالية مصطلح شمال / جنوب .
Post Views: 3٬093