د.حسين السلطاني …
الحلقة الثامنة …
٥- حرية التعبير عن الرأي
في ظل النظام السياسي الديمقراطي يحق للمواطن التعبير عن آرائه السياسية بحرية تامة ، ولا تقف هذه الحرية إلا عندما تتعارض مع حقوق الآخرين ، والكلام هنا ليس بصدد توضيح مفهوم الحرية وحدودها بل في المقدار المتاح بين الجميع في الحقل السياسي .
ويشكل تطبيق هذا الحق في المجال السياسي احد الضمانات العملية للحد من إستبداد السلطة ، فقد أثبتت التجارب الإجتماعية أن السلطة تدفع الحاكم نحو الإستبداد والتعسف بدرجة وأخرى ، فكم من ثائر أو حزب ناهض الاستبداد وقارع الظلم واستبسل في المواجهة تحول الى مستبد وطاغ بعد تسلمه لها ، حتى صار الناس يترحمون على من سبقه ، الامر الذي يكشف عن نزوع طبيعي لدى الإنسان بشكل عام بهذا الإتجاه ، وقد إتضح إن الخطاب الوعظي والاسلوب التربوي لايكفيان لوحدهما لمعالجة المشكلة ، بل تحتاج الى حزمة من الإجراءات العملية للحدّ منها والتغلب عليها ، ومن هذه الإجراءات ، وعلى رأسها هي : تمكين الناس من مراقبة أداء الدولة ، وممارسة دورهم تجاهها بالنقد والتقويم والتوجيه ، فأتيح لهم قانونا ممارسة حرية التعبير عن الرأي بالكلمة والاحتجاج والتظاهر وحتى العصيان المدني ان إستدعى الأمر ذلك ، لكن هذا الحق الإنساني وهذه الممارسة الحضارية ، شأنها شأن الكثير من الحقوق الممنوحة للإنسان ، يمكن له أن يمارسها بالطريقة الصحيحة التي تؤدي الى تحقيق مصالحه وتغيير واقعه نحو الأحسن ، وبالتالي تساهم في تكامله المادي والمعنوي ، ويمكن له أن يتعسف في إستعمالها فتكون وسيلة لفساد واقعه المادي وإنحطاطه النفسي والمعنوي .
ولضمان الممارسة الصحيحة لهذا الحق وضعت الشرائع السماوية والأرضية – على إختلاف مناهجها في التربية – ضوابط متعددة ، ذاتية وموضوعية من أجل الإطمئنان على ممارستها بالشكل الصحيح ، بحيث يحافظ الإنسان على حقوقه من جهة ولا يتعدى على حقوق الآخرين من جهة أخرى ، وقد أولى التشريع الإسلامي هذا الموضوع الذي ينطوي تحت عنوان : (الحقوق ) إهتماماً بالغاً في السنة الشريفة ، فقد ورد عن الرسول الأكرم : ( لايؤمن عبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير ) .
وقال علي في وصيته لإبنه الحسن (عليهما آلاف التحية والثناء ) : ( يابني إجعل نفسك ميزانا فيما بينك وبين غيرك ، فأحبب لغيرك ما تحبّ لنفسك ، وأكره له ما تكره لها …..) .
ومن الضوابط الموضوعية في هذا المجال هي : تشريع القوانين اللازمة التي تستوعب جميع متطلبات تطبيقها الصحيح ، ومن ثمَّ يصار الى تنفيذها بدقة من قبل الجهات التنفيذية المتمثّلة بالحكومة والقضاء .
كل هذه الإجراءات إفتقر إلى إتخاذها النظام السياسي الحالي في العراق ، فهو فسح المجال للمواطنين بممارسة حقهم في التعبير عن آرائهم في الأداء السياسي للدولة ، لكن دون أن يتخذ أي إجراء يحصنهم من تفادي آثارها السلبية ، سواء على مستوى البناء الذاتي أو على المستوى الموضوعي ، فقد أهملت مؤسساتنا التعليمية والتربوية والإعلامية ، ومراكز البحث والتوجيه هذا الجانب تماما ، ليس على مستوى المتربين والمتدربين وحسب بل حتى على مستوى المربين والمدربين أنفسهم ، الأمر الذي يستدعي من الدولة بجميع أجهزتها المعنية أن تضع برنامجا مدروسا وشاملا لجميع شرائح وطبقات المجتمع لمعالجة هذا الموضوع من جميع جوانبه ، خصوصا وأن المجتمعات الإسلامية عموما والمجتمع العراقي خصوصا يتعرض الى هجمة ثقافية مسعورة ، تغذيها جهات معادية متخصصة ، وبوسائل تكنولوجية متطورة وبأساليب جذابة وخادعة ، وبوادر الخطر ماثلة للعيان ،في القول والممارسات ، والمستقبل ينذر بخطر كبير ( قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر ) آلِ عمران : ١١٨، الامر الذي يستدعي استنفار جميع الجهود ، المادية والبشرية لتحصين المجتمع أمام هذه الهجمة الشرسة ، لأن السور الذي يقي المجتمعات والأوطان من الإختراق قبل أيّ تحصين آخر هو التحصين الفكري والوعي الثقافي والمحتوى الأخلاقي للإنسان :
( وإنما الأمم الأخلاق مابقيت …
فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
وإذا أصيب القوم في أخلاقهم
فأقم عليهم مأتما وعويلا
صلاح أمرك للاخلاق مرجعه
فقوّم النفس بالأخلاق تستقمُ
ومثلما أهملت الدولة البناء الذاتي للأفراد ، أهملت كذلك معالجة الجانب الموضوعي لتحصين المجتمع ، الذي يعيش إنقساما حادا في بنيته الثقافية وتركيبته الإجتماعية ، وسنناقش هذا الموضوع بتفصيل أكثر في الحلقة القادمة إنشاءالله تعالى .