دانيال سليفو بتازو…
مسيرة وأحداث 1984 لشعبنا وللحركة الديمقراطية الآشورية
• بدأنا نشهد بعض المظاهر ومحاولات الهيمنة الحزبية للمنتمين الى الإسلام السياسي بحجة تطبيق الشرائع الدينية وفرضها بالخصوص من المتعصبين منهم، وفيها الكثير من المبالغة والتصنّع والنفاق والتظاهر أمام الآخر المختلف. وبتنا نعاني من الإزدحامات في الحمامات والمغاسل خصوصاً فترات الوضوء لتأدية الصلاوات، مع الخوف والهاجس الهستيري ( وسواس قهري ) لدى بعض السجناء من الإقتراب منّا وملامستنا ( ليبقى طاهراً ولا تبطُل صلاته ) كما يعتقد. وفي فجرأحد الصباحات وقد نهظت كالعادة على صوت المؤذن عبر المكبرات وهو يدعو الى الصلاة، لاحظت ان السجين الجالس قرب إحدى السماعات يحاول العودة الى النوم، قلت له مازحاً : الجميع ذهب الى الصلاة عداك، أنت باق اليوم بدون صلاة ؟. ضحك مجيباً : آني مو مسلم يا إبن الخالة. أجبته مستفسراً : يا إبن الخالة ؟! ماذا تقصد ؟. رد قائلاً: أنا من جماعة يحيى إبن خالة المسيح، مندائي يعني صُّبي وإسمي نهاد وأريد أنصحكم لأن ظروفكم ستكون صعبة في هذه الأوضاع لا محالة. صادقت نهاد خرجنا عدة مرات، وإعطاني الكثير من التفاصيل وبالخصوص عن السجناء المؤثرين والمتحكمين على حركة الآخرين، وأخبرني بأن أهم الشخصيات المتحكمة والمحترمة من قبل الجميع هو حجة الإسلام الشيخ علي الحُـر. وبعد عدة أيام، طلبت من أبو صابر ( إحدى الشخصيات المؤثرة في وسط الشيعة ) لقاء الشيخ، وكان رده إيجابياً مشترطاً أن تكون سرية وبعيدة عن أنظار إدارة السجن والمتعاملين معهم من الوكلاء.
• ذهبت الى قسم الجملون الثاني لمقابلة الشيخ، وإندهشت للعدد الكبير من السجناء أغلبهم أعضاء الأحزاب الإسلامية، وهم في حركة دؤوبة واحاديث من سرير الى آخر. مع نقاشات يتخللها صياح وضحك تشعرك وكأنك في سوق وبازار كبير وكأن لسان حالهم يقول ( حشرٌ مع الجماعة عيدٌ ). كان الشيخ حينذاك أحدب الظهر ويقارب الثمانين من العمر كما يبدو وقد يكون شكله هذا نتيجة التعذيب !. وله زاوية خاصة للجلوس ومقابلة الأتباع والذين يخدمونه ويهتموا بشؤونه، وأمامه سجادة ممتدة متوسطة القياس. نهض من مكانه من وسط ثلاث وسادات ليسلم عليّ. وبعد أن إنتهى من الأسئلة الروتينية قال لندخل في الموضوع.. ودار بيننا الحوار التالي وبالفصحى أحياناً :
– هل أنتم تنظيم الجيش المريمي كما نقل لي أولادي في السجن ؟!.
– لا ابداً.. نحن أعضاء الحركة الديمقراطية الآشورية.
– ها .. تنظيم جديدة ؟
– نعم تنظيم جديد لقضية قديمة. وأخذ يُحدق بسقف الجملون كأنه يتمم مع نفسه سأل:
– ما موقفكم من الدين ؟ عَلمانيين ؟
– ليس بالضبط، نحن أهملنا وتجاوزنا المصطلحات ومعانيها لكي لا نقع في دوائرها وشبائكها المهلهلة.
– كما تعلم فإن المجاهدين في حزب الدعوة، يجاهدون من أجل الوعد الإلهي وحكم لله وشريعته السمحاء والعدالة. وكأنه فتح شهيتي للحديث :
– الحمدلله، ما دام الله عادل، سنرى عدالته في مواقفكم ومعاملاتكم معنا كأتباع لدين وإثنية عراقية مختلفة. وبالخصوص في قضايا النجاسة والطهارة التي يراد منها أذيتنا وعزلنا، وكأننا لسنا عراقيين ومنتهكين من النظام، و بما لا يتوافق مع الوحدة المنشودة في عمل المعارضة العراقية!. بدت على الشيخ علامات الإرتياح لأهمية الموضوع وإسترسل شارحاً الإشكالات والملابسات والأصول الدينية لها والتي يرعاها المسلم الملتزم, والتي إنبثق منها ما يحسها الإخوة المسلمين الشيعة من المسيحيين، ومن المذاهب الأخرى وإختتم قائلاً :
– بدون زعل، نحن لا نجامل في الدين. انتم تعتبرون النبي عيسى إبن لله وهذا كفر. ونختلف في قول إنجيلكم المحرف! ( من ضربك على خدك إعط له الأخرى ) لأن هذا ينافي عقيدة الولاء والبراء والجهاد. شعرتُ حينذاك بأنني حُشرت في مساحات ساخنة، لم تكن من أهدافي قط الولوج فيها :
– إنجيلنا لا يقول عيسى المسيح إبن الله فقط بل جميعنا أبناء الله وحتى سماحتك. وهي تسمية لاهوتية يتحكم في تفسيرها روح القدس .. روح الله ( كما يعتقد الشيعة ). الا تتذكر سؤالك لي في بداية الحديث : هل أنتم تنظيم الجيش المريمي كما نقل لي أولادي في السجن ؟!. هل هم أولادك حقاً، ام ان حبك الشديد لهم وإرتباطك الروحي الإيماني بهم جعلك تسميهم أولاداً، والولادة كلمة أشنع وأصعب وأخطر من البنوة التي تعني المُلكية بمعناها العام، كأن يقول العراقي أبو البيت أو أبو الشربت وابو التكسي ، وهذه عبارات لا تعني الأبوة الحقيقية لأنها تتنافى مع الواقع والمنطق وكذلك حينما نقول: هذه من بنات أفكاري!. كما وأن القرآن يقول بأن ( الإنسان خليفة الله على الأرض )، وكأنه يقول إبن الله على الأرض، وكما هو متداول من العبارات الشائعة والمتكررة عند الجميع حينما يقولون ( شنو خلّف فلان أو خير خلف لخير سلف ) ويقصدون أبنائهم. دفع الشيخ هواءاً ساخناً من رئتيه، أعقبها بحسرة طويلة وشهيق عميق. وبعد لقائي الثاني به وبعد حوار طويل, نهض وبظهرة المحدودب، وعانقني بحرارة مع دموع تجري في أخاديد العمر من على وجهه، وكانت دموعه غالية عندي، وتمنيت لو كان الجميع مثله. وعلمت لاحقاً بأنه من أتباع المرجع الديني الشيعي ابو القاسم الخوئي، ونظرتهم الى النجاسة والطهارة أكثر إنفتاحاً وتفهماً.
– كيف نناديك بأي لقب . أجبته بدون تردد:
– ينادوني أبو مريم .. وهكذا إستحدثتُ إسماً حركياً جديداً عند التعامل مع أعضاء حزب الدعوة في السجن، هو أبو مريم. وبإختصار كانت نتيجة الحوارات إنها تركت أثراً إيجابياً لطبيعة العلاقة، وتحولت الى صداقة وإحترام بين أعضاء الحركة مع السجناء الإسلاميين في المعتقل. وعشنا بسلام وهدوء أكبر. خصوصاُ بإن علاقتنا مع الأعداد المحدودة من أعضاء الأحزاب الكردية والشيوعيين والسنية كانت طبيعية وبدون أية إشكالات.
• رغم محاولاتنا التوازن في العلاقة ما بين الإسلامين من جهة وبين الشيوعيين والحزب الإسلامي السني والأحزاب الكردية، الا ان تفاعل الشحنات السلبية فيما بينهم والإصدامات، جعلتنا نقيس الإمور بدقة أكبر. ففي أحد الأيام هجم بعض المتعصبين نحونا ومحاولة القيام بالإعتداء على أحد زملائنا, بسبب ما وِرد لديهم من معلومة تشير الى قيام أحد الشيوعيين بإهانة الفكر الشيعي بوجود زميلنا مرافقاً له في ذلك الظرف. مما جعلنا نقف موحدين للدفاع عن زميلنا برد كلماتهم الحادة والمناقشات والصياح بما يقابلها بالمثل، وتم حل الموضوع بتدخل الشيخ علي الحُـر.
• العلاقات الإيجابية كانت السائدة، وإستمرت مع جميع السجناء وبمختلف مرجعياتهم الإيدلوجية، فالمعاناة والجوع والتوق الى الحرية، أذابت التعصب والمجادلات العقيمة، وإتخذ الجميع من حيث يعلمون أو لا يعلمون، هويتهم وعنوانهم الأساسي الا وهو الإنتماء الى الجنس البشري والإنساني. وإستمر الروتين والملل والقلق والبحث عن المصير، ينخر رويداً في خلايانا وآمالنا وطموحاتنا، لولا إنشغالنا بإمور البيع والشراء مع العدد المحدود من السجناء، وذلك من خلال البسطية ( بطانية أو ملاءة متوسطة الحجم )، نضع عليها معروضات للبيع تهم السجين، مثل خيوط الغزل وصنارات للحياكة والمسابح وقواعد بلاستيكية لأحذية الگيوه, وإقمشة ملونة وأصماغ لصناعة علب الهدايا والمجوهرات، ولا زالت العديد من العوائل والإصدقاء تحتفظ في بيوتها وعلى الجدران بمحافظ نسائية ولوحات تم عليها حياكة شعار النجم الآشوري وايقونات ورموز دينية وشعار الحركة الديمقراطية الآشورية وخارطة العراق. وهذه المنتوجات كانت مصدر للإشارة والتذكير بالزمن الصعب وأيام المحنة، لمجموعة أرسلت رسالتها للعالم : لن تستقيم أحوال البشر إن بقيّ هناك فرد أو مجموعة إنتُهكت حقوقها.
للاطلاع …
سرديات أليمة من داخل أسوار ابو غريب (1)
سرديات / ايام القسوة والقلق والتحدي في الأمن العامة (2)
سرديات/ التوق الى قمم الجبال من وراء الأبواب الموصدة (3)