علي حسن الفواز …
السياسة تحتاج الى الافكار، والى البرامج، والى التخطيط، وبعكسه فإنّ الممارسة السياسية ستكون وظيفة عزلاء، أو وظيفة روتينية لتصريف الاعمال والمصالح، أو لفرض السيطرة على الاخرين، وباتجاهٍ يجعل هذه السياسة خالية من الطعم والمعنى، لأنّها بلا أفق، وبلا وعي.. علاقة السياسة بالافكار هي علاقة مسؤولة، وعلاقة حاجة وتوضيح، لأنّ هذه الافكار هي العناوين الاساسية للوظائف الكبرى، مثلما هي الخطوط الواضحة لبيان المعرفة، وللتعريف بالسياسة ذاتها، وبستراتيجيتها الفاعلة في حياتنا العراقية، لاسيما أن تاريخ الممارسة السياسية منذ عقود يفتقد الى تاريخ عياني لهذه العلاقة، وهو ماجعل السياسة منذ عام 1958 تعيش نوعا من العطالة، مقابل فرضية السيطرة التي يفرضها الزعيم والقائد والانقلابي والايديولوجي، وصولا الى فرضية “الرئيس القائد” وهي صفة عابرة للتداول السياسي، ولتأسيس مظاهر الرعب السياسي، وتجريد المفهوم الاخلاقي للسياسة من أيِّ تعالق حقيقي مع المسؤولية والأنسنة والاخلاق والادارة والمعرفة..
هذا التاريخ الاشكالي للتداول السياسي يضعنا اليوم أمام عقدة تجاوز هذا التاريخ، والبحث عن مناطق آمنة للقبول بتداول مصطلح “السياسة المسؤولة” والتي تُعنى بادارة شؤون العامة، وشؤون الدولة، وبتأهيل القوى المجتمعية للانخراط في عمليات تنمية واسعة، بعيدا عن مركزة الحكم وفرضيات السيطرة والرقابة وطرد الاخر..
مايجري منذ عام 2003 فرض صورته الشوهاء على صناعة “صورة السياسي العراقي” و “صورة الدولة السياسية” ومن ثمّ تحديد عمل ابطال هذه الصورة في ممارسات وبرامج غير قابلة لتحرير السياسة من ذاكرة الاستبداد والديكتاتورية، واطلاق العنان لواقع سياسي تتسع فيه قيم الحرية والشراكة والتفاعل والمشاركة، وتوخي المسؤولية في بناء المؤسسات والمشاريع الكبرى، وفي صياغة عقد اجتماعي وسياسي جديد تتأمّن فيه المصالح والحريات والحقوق..
***
الحديث عن السياسة الصالحة، أو السياسة العادلة يعني الحديث عن “المجتمع العادل” وعن طبيعة العلاقات التي يمكن أن تصنعها وتديرها السياسة لتحقيق هذا المجتمع، وبلوغ العدالة الانسانية والحرية المكفولة بالقانون وبالسلم الاهلي، وأن بلوغ هذه المرحلة يعني أن تكون السياسة وبرامجها مؤهلة لتجاوز عقد التاريخ، وعقد أنظمة رهاب الحكم البشعة في مركزيتها وفي صراعاتها الدامية، فضلا عن كونها عنصرا مهما في اعادة تأهيل الفرد لأن يكون عنصرا فاعلا في الاندماج والتعايش المشترك، وفي تجاوز عقد مركزيات الطائفية والقومية والحزبوية
، وهي قضايا معقدة، مازال الكثيرون يعانون من تداعياتها اللاواعية، ومن أثرها الغرائبي على الناس وعلى اصطفافهم في الاجتماع العراقي.
نجاح السياسة قد يكون دافعا للنجاح في ميادين أخرى، وفي حماية الواقع العراقي من التصدّع، وهذا مايجعل صلاحها مدعاة للحديث والجدل والاسئلة، وبحثا عن فرص حقيقية لأنسنة تلك السياسة، ولنزع الكثير من أقنعتها القديمة، وباتجاه مواجهة تحديات ما تفرضه “المرحلة الديمقراطية” وهي مرحلة تستدعي ممارسات واعية في العمل السياسي، على مستوى بناء المؤسسات الدستورية، وعلى مستوى الانخراط في برامجها وسياقات عملها، وعلى مستوى التداول السلمي للسلطة، وعبر اطر عملياتية لا تتعارض ومصالح الجماعات والمكونات الأخرى..
***
من الصعب جدا الحديث عن الصورة الناصعة للسياسة بعيدا عن مسألة الهوية والتنوع الهوياتي في العراق، إذ اقترن هذا التنوع بتاريخ طويل من الصراعات، كان لسوء ادارة السياسة الأثر الكبير في تأجيجها، وفي تحويلها الى صراعات دامية.